رواية "هي التي رأت" للكاتبة العراقية سمية زكي الشيباني: حكاية بلاد تتخطى المعقول

علي العزير

"هي التي رأت" رواية تنتمي إلى الأدب الواقعي المتكئ على السحر، تصوغها الكاتبة العراقية سمية زكي الشيباني على وقع أساطير بلاد ما بين الألمين: ألم الولادة وألم الموت.
سيرة ذاتية لامرأة ولدت في "الزمن الأبيض"، أي زمن المحبة والتسامح، زمن يكاد يبدو، لابتعاده عن الواقع المعاصر، أسطورياً. كان الناس فيه أكثر تقبلاً لبعضهم البعض، وكان واحدهم أقل ميلاً، واستعداداً، لإلغاء الآخرين. ثم كان لها أن تعيش حياتها على التخوم الفاصلة بين الحقيقة والخيال. امرأة تتحدث عن المعجزات كما لو أنها شهدتها لتوها، وتحوز على قابلية مدهشة في اقناع قارئها بما هو عصي على الحدوث كما لو أنه بداهة. 
تتحدث الراوية، التي رافقتها الغرابة منذ ولادتها، حيث أصر والدها على منحها اسماً ذكورياً، هو "قيس"، عن تفاصيل حياتية وحدثية تنال رضى المخيلة وإن كانت لا تحظى بقبول العقل. تعمل على ذلك وفق صياغة سردية محترفة تحرض القارئ على التخفف من أعباء المحاكمة الذهنية الصارمة... وتدفعه نحو إبداء استسلام ممتع في عفويته للانقياد وراء زخم إيحائي مرصع برونق سحري فائق الروعة.
بجرأة واضحة تخاطبنا الراوية: "أنا من زمن غير زمنكم". لكنها لا تلبث أن تستغل اختلافها التاريخي لتؤكد لنا أنها من عالم غير عالمنا أيضاً. عالم تتشكل وقائعه من مزيج متقن بين المعقول والمدهش، تقتصر مهمة العادي في أرجائه على توليد الغرائبية بكامل مباعث ألقها المباغت.
تخوض الفتاة معركتها مع اسمها الجامد الذي يأبى أن يتحرر من صلادته، تقودها الدرب نحو أماكن مسورة بالغموض، بمحاذاة العالم الواقعي تكتشف عالماً موازياً أكثر تقبلاً للحلم المنطوي على هذيان مطلق. نستنتج متأخرين أن معاناة التسمية ليست أكثر من ذريعة لكي تدخلنا في مدارات أوهامها المتجذرة. نقبل الدعوة بانسيابية غير مألوفة. ثمة في مهارة السرد ما يدفعنا إلى التواطؤ مع عجائبية الحكاية وسوريالية الموقف.
عندما تلتقي قيس، وهي سليلة سلالة من غير الفانين، مع إحدى بنات جنسها التي تهبط عليها "كليل ثان ينبثق من الليل الأول"، تكون الفرصة مناسبة لاستعادة المواجهة الأسطورية بين جلجامش وأنكيدو. وتبيان الخلل المحوري الذي جعل الحياة أمراً يكاد يكون مستعصياً. نصير هنا أمام إعادة صياغة للواقع المعاش تعتمد على أسانيد غير واقعية. نضبط أنفسنا فجأة ونحن نصغي باهتمام إلى ما نعرف مسبقاً أنه نتاج مخيلة نشطة... لكن إدراكنا للحقيقة لا يخفف من سرعة اندفاعنا نحو تلقي الأسطورة بنهم استثنائي.
حكاية جلجامش الذي أذل أهل أوروك ثم مجده أهلها. حكاية الأنثى التي تنجب الرجال الأقوياء، وحكاية الصراع الأبدي بين جلجامش وأنكيدو. كل ذلك يندرج متسقاً بين دفتي رواية تحاول اختزال التجارب الحياتية على اتساعها، وتنجح سمية زكي الشيباني في اجتذابنا نحو فضاءاتها الشاسعة بعد أن تكون قد رسمت خرائطها باقتدار متمكن.
قيس الهاربة من قسوة الموت لحقت بها لعنة الخلود. انها مأساة لا تقل عن الموت سوءاً أن لا يكون المرء خاضعاً لقانون النهاية. أن تمر به الأيام ويتغير الزمن من حوله فيما هو باق على حاله. إن كان للفانين عثراتهم فإن للخالدين أعباء خلودهم المثقلة بالرتابة المضجرة.
ثم كان أن جاء زمن مغاير... صار العراق، موطن قيس، فيه مطرحاً للموت بكل أشكاله وصوره المفزعة. تسيد خلاله جلجامش مجدداً ليقتل دون حساب، ومرة أخرى كان على أهل العراق أن يمجدوا قاتلهم.
هنا تسير أحداث الرواية وفق إيقاع متسارع نتعرف على الطفل علاوي وأمه نسرين التي تخفي عنه خبر موت أبيه، فيما هي تسعى لتجنيبه مصيراً مماثلاً. ثم يقتحم عالم الأحداث شخص يدعى رسن، الرجل الهارب من الموت العبثي بحثاً عن موت أكثر مشروعية ومعقولية. تلحق به حبيبته السابقة نرجس، التي ارتضت أن تعيش معه في قبوه السفلي حيث كان يختبئ من رجال الأمن. وصبي الباص الذي قضى بانفجار ثم عاد ليظهر فجأة في إحدى بحيرات لوزان السويسرية الباذخة في جمالها.
شخصيات روائية شتى يكتظ بها الطريق بين الحياة والموت، راوية تعشق أبطالها وتغار عليهم من حبيبات صنعتها لهم حتى يكتمل الحدث. إنها حكاية بلاد أكثر تعقيداً من أن تحتويها قصة واقعية.