إعلام "à la carte" حين يصبح الخبر وجبة تُفصّل على قياس الممول!

الدكتور سمير حسن عاكوم
في لبنان، لا يُصنع الخبر في قاعة التحرير فحسب، بل في الصالونات السياسية وغرف التمويل وأروقة الطوائف. لا يقرأ المواطن ما يحدث، بل بما يُسمح له أن يعرفه. في زمن الانهيارات، لم يسلم حتى الخبر من منطق السوق، فأصبح الإعلام وجبة تُطبخ على نار المصلحة، وتُقدَّم للناس بحسب رغبة المموّل لا ضمير.
تختلط السياسة بالمصالح الخاصة والرأي العام بالمصالح الخارجية، لم يكن الإعلام يوماW بمنأى عن الاصطفافات. لكن الظاهرة آخذة في التوسّع من خلال "التغير السريع" لبعض مقدمي البرامج، هي ليست مجرد تلوّن إعلامي أو انحياز ضمني، بل هي شكل فاضح من أشكال "الإعلام المفصّل حسب الطلب".
تعبير "à la carte" مأخوذ من عالم المطاعم حيث يختار الزبون وجبته من لائحة بحسب ذوقه، يُعبّر بدقة عن واقع العديد من وسائل الإعلام اللبنانية. فبدلاً من تقديم خبر نزيه وتحليل مهني، تقدّم القنوات والصحف مواد إعلامية مصمّمة مسبقاً، تعكس مصالح الممولين السياسيين والاقتصاديين والمصرفيين، وليس حاجات الجمهور أو الحقيقة الموضوعية التي تهدد مستقبل الوطن!
تعدد في المنابر وتوحّد في الأجندات! ظاهرياً، يزخر المشهد الإعلامي اللبناني بالتنوع، قنوات تلفزيونية، إذاعات، صحف، منصات رقمية… لكن ما إن تُقلب الصفحات أو تُتابَع النشرات والبرامج حتى تظهر الحقيقة العارية، غالبية هذه الوسائل تتحرك ضمن خطوط مرسومة، تموّلها جهات حزبية، طائفية أو مصرفيّة وتُحدد لها سقف الخطاب وهوامش النقد.
قناة معينة تُعلي من شأن المقاومة، وتتجاهل ملفات الداخل أو تتناولها بمنطق التبرير والدفاع. في المقابل، قنوات أخرى توجه انتقاداً دائماً الى ما تعلي من شأنه القناة الأولى في مقابل تعاطٍ أكثر ليونة مع القوى السياسية المناهضة له حتى لو كانت غارقة في الفساد!
هكذا، لا تعود المسألة مسألة مهنية أو تحقيقاً استقصائياً أو موقفاً تحريرياً، بل تتحوّل إلى لعبة مصالح عنوانها من يدفع أكثر يُحدّد زاوية التغطية، ومن يموّل المؤسسة يكتب الخبر!
التمويل ليس العامل الوحيد في هذه المعادلة. هناك أيضاً تقييد الرقابة الذاتية التي يفرضها الصحافي على نفسه خوفًا من فقدان عمله أو إثارة غضب القيّمين على المؤسسة. صحافيون ومقدمو برامج كثر في لبنان يعترفون في جلساتهم الخاصة بأنهم يختارون كلماتهم بحذر ويتجنبون بعض المواضيع، ويعرفون جيداً "الخطوط الحمراء" التي لا يسمح لهم بتجاوزها.
لنصل من خلال ما سبق الى عنوان الثقة المفقودة والجمهور المتشظي على الدوام. هذا الواقع، جعل نسبة كبيرة من اللبنانيين تفقد الثقة بالإعلام، وتلجأ إما إلى مصادر بديلة على وسائل التواصل الاجتماعي غير مهنيّة، وإما إلى الإعلام الأجنبي بحثاً عن قدر من التوازن. لكن المفارقة أن بعض هذه البدائل أيضاً لا يخلو من التحيّز والتبعيّة للتمويل، فتتعمّق الأزمة وتزداد الفوضى المعرفية وتتوسع دائرة الضياع اللبناني.
من هنا نطرح سؤالنا البديهي ما الحل؟ هل من خلال الصحافة المستقلة أو تجاهل الإعلام؟ في ظل كل هذا يبقى الأمل معقوداً على المبادرات الإعلامية المستقلة، ولو كانت محدودة الإمكانات وعلى الصحافيين والأعلاميين الأحرار الذين يدفعون ثمن صدقهم تهميشاً أو تهديداً. فالمعركة اليوم ليست فقط من أجل الخبر بل من أجل الحقيقة وتحقيق المواطنة المنسجمة مع كيانيتها.
لبنان بحاجة إلى قانون إعلام حديث لا يُفصَّل على قياس الطوائف أو الممولين في الداخل والخارج، بل يُفصَّل على قياس المواطن الباحث عن وطن يشبهه، لا وطناً يُصنع على الشاشات المتلونة بخلفيات تمويل يتغير على الدوام.