قداسة البابا.
اختار البابا لزيارته، وعلى الارجح بالتنسيق مع الدولة اللبنانيّة، شعار "طوبى لفاعلي السلام"، وهو جزء من جملة مقتطعة من إنجيل متى، يقول فيها يسوع: "طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون". لا أعرف لماذا أستُبدلت كلمة "صانعي" السلام بكلمة "فاعلي" السلام، مع ان كلمة "صانعي" ذات مدلول أوسع يشمل صناعة الحدث، وليس فعله أو تنفيذه فقط كما يمكن ان يُستدل من كلمة "فاعلي". ربما لأن كلمة "فاعلي" مأخوذة من ترتيلة مسيحية معروفة بدل أن تؤخذ من النص الانجيلي مباشرة.
سيمر شعار البابا في نهاية الأسبوع كما يمر شهابٌ في الفضاء الواسع، فيراه الناس ويسرعون كعادتهم الى إطلاق التمنّيات، ذلك انهم يستعدّون بعد زيارة البابا لمرحلة دموية جديدة في حياتهم، بشّرتهم بها التهديدات الإسرائيليّة-الأميركية والتحذيرات العربيّة.
أتساءل عن مضمون هذه التمنّيات، عند طرفي النزاع في لبنان، حزب الله وبيئته وما تبقّى من حلفاء له من جهة، ومعارضيه وهم باتوا الأكثريّة الحزبيّة والشعبيّة، من جهة ثانية.
فهل سيتمنّى الحزب ومعه بيئته ان يكون لشعار البابا تأثيره على إسرائيل وأميركا، فيحجمان عن العدوان الذي يعدّان له؟ والمفارقة هنا ستكون ان هكذا تمنٍّ يتناقض مع موقف الحزب وبيئته من شعارات السلام التي تعني بالنسبة لهم إستسلامًا لإسرائيل وتطبيعًا معها. وقد عبّر جمهور الحزب عن موقفه هذا من خلال ردود الفعل المتهكمة على شعار الزيارة المرفوع على الطرقات.
بالمقابل هل سيتمنّى معارضو الحزب ان تمر زيارة البابا- وحدها - بسلام، في حين انهم ينتظرون بفارغ الصبر الضربة الإسرائيليّة التي ستقضي على ما تبقّى من قوّة وتأثير عند خصمهم اللدود؟ وهنا أيضًا ستكون المفارقة فاقعة، إذ انه من المفترض ان يكون هذا الفريق، وخاصة في اوساط جمهوره المسيحي الواسع، أكثر حماسة لشعار البابا وللإستجابة لكلمة يسوع. في الواقع يعبّر هذا الجمهور عبر وسائل التواصل الإجتماعي عن إستيائه من رفض حزب الله لتسليم سلاحه، ولا يبدي معارضة لضربة إسرائيليّة تجبره على ذلك.
تراودني هذه التأملات وأنا أتابع عن كثب تبادل مشاعر الكراهية والعنف بين الطرفين، بمناسبة وبغير مناسبة.
وهي تأمّلات غير مستقلّة عمّا يجري حولنا من حروب، فضلاً عن الصراعات الدموية المذهبيّة والإثنيّة عند جيراننا السوريين، والمرشحّة على ما يبدو من الأحداث الأخيرة، الى التفاقم.
أحاول الخروج من تأملاتي المقلقة، باللجوء الى أفكار من وحي شعار زيارة البابا، استقي بعضها من الحاضر وبعضها الآخر من الماضي. أفكِّر بدايةً بهذا البابا الأميركي المناهض لسياسات ترامب بشأن العمالة المهاجرة كما بشأن "دكتاتوريّة الإقتصاد" التي انتقدها في رسالته الأولى بعنوان "في محبة الفقراء"(يمكن مراجعة مقالي حول الموضوع في "النهار")، وأتساءل بشيء من السذاجة، إذا كان بإمكانه التأثير بالصراعات الدوليّة والإقليميّة باتّجاه إحلال سلام عادل في منطقتنا، بإسم هذا الاله الذي يؤمن به، والذي يعتبر ان ابناءه هم صانعو سلام لا حرب؟
كما تعود بي الذاكرة الى صانعي سلام فعليين، وأولهم الطليعي في عصر الانوار، الأب دو سان بيار Abbé de Saint Pierre الذي حاول وعلى أثر الحروب المتتالية- الدينيّة بين الكاثوليك والبروتستانت، والقوميّة بين ممالك الدول الأوروبيّة- أن يقترح أفكارًا من أجل سلام دائم، سرعان ما طوّرها بعد ذلك الفيلسوف كانط في مقالته عام 1795 بعنوان "الى السلام الدائم: تصميم فلسفي".
مهّد كانط لمقالته ببعض المواد، نذكر منها ما هو متصل اكثر بطبيعة مشكلاتنا:
- لا تخضع أي دولة مستقلة، سواءً كانت كبيرة أو صغيرة، لسيطرة دولة أخرى.(فكّروا في احتلال إسرائيل لفلسطين ولإجزاء من لبنان وسوريا).
- يجب إلغاء الجيوش الدائمة إلغاءً تامًا على مر الزمن.( فكّروا بخطر بقاء التفوق العسكري الاسرائيلي).
- لا يجوز لأي دولة أن تتدخل بالقوة في دستور أو حكومة دولة أخرى.(فكّروا بمرحلة هيمنة نظام الأسد على لبنان).
وأنهى كانط مقالته بمواد ثلاث لا تنص على وقف الأعمال العدائية فحسب، بل تشكل أساسًا لبناء السلام:
- يجب أن يكون الدستور المدني لكل دولة جمهوريًا.(لا عسكري ولا ديني).
- ينبغي تأسيس قانون الشعوب اعتمادًا على نظام اتحادي بين الدول الحرة.(الفدرالية داخل الدول او فيما بينها).
- يقتصر قانون المواطنة العالمية على شروط الضيافة (إكرام الأجنبي) العالمية.
انها مجموعة مقترحات قد يصلح بعضها وقد لا يصلح بعضها الآخر في واقعنا المعقّد. لكن أكثر ما ينقصنا ليست الأفكار، بل صانعي سلام. فمعظم الأطرف المعنيّة لا تتبنّى السلام كقيمة اساسية في عقيدتها، وقليلة هي التي تنظر الى السلام كعمليّة بناء، وليس كحالة لاحرب. عمليّة بناء تبدأ بمنع صيد العصافير وبتجريم الثأر وجرائم الشرف وتعنيف النساء، وبتقبّل التعدّديّة المذهبيّة والإثنيّة على اساس احترام الآخر كإنسان متساوٍ وحر،
في إطار دولة مركزية او اتحادية، تطبّق القانون، وتنمّي قدراتها المؤسساتية والاقتصادية والعسكرية للدفاع عن شعبها وعن حدودها في حال تعرضت للإعتداء.
الأكثر قراءة
المشرق-العربي
11/27/2025 1:37:00 PM
بعد عامٍ على الهزيمة، تسلّط رؤية نابليون الضوء على أسباب خسارة الحزب.
شمال إفريقيا
11/27/2025 10:52:00 AM
وفاة الإعلامية المصرية هبة الزياد بشكل مفاجئ خلال نومها، في رحيل غير متوقع شكّل صدمة واسعة لدى متابعيها
الولايات المتحدة
11/27/2025 10:27:00 PM
في لحظة اكتشاف هوية المشتبه به في إطلاق النار على جنديين في الحرس الوطني وإصابتهما بجر,ح خطرة، وحد اليمينيون، صناع رأي وجماهير لا فرق، خطابهم: إنه الإرهاب الإسلامي.
لبنان
11/26/2025 5:22:00 AM
كل ما يجب معرفته عن زيارة الحبر الأعظم الأحد
نبض