هل من نوافذ نور تحمله الزيارة البابوية لتركيا ولبنان؟

آراء 28-11-2025 | 08:39

هل من نوافذ نور تحمله الزيارة البابوية لتركيا ولبنان؟

من القسطنطينية ونيقية الى بيروت "ام الشرائع ومُرضعة العلوم": هل من نوافذ نور ومن جديد تحمله الزيارة البابوية لتركيا وللبنان الباحث عن بوصلة وطنية وخشبة خلاص؟
هل من نوافذ نور تحمله الزيارة البابوية لتركيا ولبنان؟
البابا لاوون في تركيا (أ ف ب)
Smaller Bigger

كتب المحامي كارول سابا: 


بهذه العلامة تنتصر! شاهَدَ الامبراطور قسطنطين علامة الصليب بالرؤية، فألبَسَ ادرُع جيشه العلامة وانتصر بها على ماكسانس في ٣١٢ في معركة جسر ميلفيوس، على بعد بضع كيلومترات من روما. فبدأت رحلة تأسيس الامبراطورية البيزنطية على اراضي الشرق، حيث ينابيع الايمان المتدفقة وجذور المسيحية الاولى التي ضُربت بالأرض منذ قيامة السيد المجيدة. هذا التحول الجيوسياسي الاول الذي غيَّر خريطة العالم، وفكَّ الطوق عن الكنيسة، طوق اضطهادات الامبراطور ديوكليسيان. ففي ٣١٣، وقع قسطنطين على وثيقة ميلان التي أوقفت اضطهاد المسيحيين، واعترفت بالكنيسة، محولاً اياها من كنيسة مُضطَهدة الى كنيسة مَسموح بها! يُعتبر اعلان ميلان اول علمانية في التاريخ. فالدولة الإمبراطورية اعترفت بالتعددية الدينية فيها ونظمت علاقة الدولة مع الاديان ليس من منطلق ديني، بل من منطلق "الانتظام العام" و"لخير الجميع" كما يقول النص. 

مع توقف الاضطهاد، تنفست الكنيسة الصُعداء. لكن تنفست ايضا أبواق الهرطقات. فآريوس المتعلم الذي كان من كهنة كنيسة الإسكندرية أطلق تعليمه المُنحرف ان المسيح ليس ازلي وان الاب وحده ازلي. فجابهه بالإيمان المستقيم وحاول ثنيه عن ضلاله رئيس أساقفة الإسكندرية، القديس ألكسندر الإسكندري، الذي أصبح المُدافع الشرِس عن الايمان النيقاوي في مجمع نيقية. لكن آريوس، الذي كان له داعمين لديهم تأثير في البلاط مثل اوزابويس النيقوميدي، استمر. فانتشرت الهرطقة وخلقت بلبلة كبيرة في أرجاء الامبراطورية. فكانت دعوة الامبراطور قسطنطين لكل آباء الكنيسة من كافة أرجاء المسكونة الى مجمع نيقية في ٣٢٥ لفض هذا النزاع الديني الذي بدأ يُهدد السلم الاهلي في الإمبراطورية، وللاتفاق على تاريخ موحد لعيد الفصح المجيد، وهذا ما تم في مجمع نيقية، ازنيك التركية اليوم، المدينة التاريخية الأناضولية الراقية المعروفة ببحيرتها الجميلة القريبة من نيقوميدية حيث كان مقر الامبراطور.

في نيقية 325 لم يحضر بابا روما المجمع، ولكن تمثل بممثلين له اثنين، وبالأسقف الإسباني أوسيوس الذي من كوردو الذي كان شخصية ذات تأثير وعلم ولعب دور في المجمع الى جانب القديس ألكسندر الاسكندراني الذي رافقه الى المجمع شماسه الذي أمسى فيما بعد القديس أثناسيوس الإسكندراني الشهير.

اما في نيقية 2025، وبدعوة من قداسة البطريرك المسكوني القسطنطيني برثولماوس، سيحضر بابا روما ليون الرابع عشر الى احتفالية نيقية، بعد ال١٧٠٠ عام على هذا المجمع المجيد باكورة المجامع المسكونية السبعة التي هي اعمدة الكنيسة الجامعة المستقيمة. البابا ليون الرابع عشر هو البابا الخامس الذي يخطو، بعد بولس السادس، يوحنا بولس الثاني، بينيديكتوس السادس عشر، وفرنسيس، مثل هذه الزيارات البابوية الرسولية الى تركيا والبطريركية المسكونية والتي بدأت منذ ستين سنة، بعد رفع الحُرومات في 1965 غداة لقاء البطريرك أثيناغوراس والبابا بولس السادس في 1964 في اورشليم. والبابا الجديد هو الثالث بعد يوحنا بولس الثاني بينيديكتوس السادس عشر، الذي يزور بلاد الأرز وبيروت ام الشرائع ومُرضعة العلوم.

تُعَد الزيارة البابوية في شقيها التركي واللبناني، الاختبار الجيوسياسي الدبلوماسي الدولي الاول له كرئيس دولة الفاتيكان. ففي لبنان، بلاد الأرز التي تبحث عن بوصلة وطنية في ظل الأخطار الوجودية المتنامية التي تهدد لبنان من الداخل ومن الخارج، دون وعي وطني لضرورة التكاتف والتعاضد في زمن المحنة، قد يقول البابا الجديد انه لم يعد يُجدي ترداد قول البابا يوحنا بولس الثاني ان لبنان هو بلد رسالة إن لم يترجم ذلك اللبنانيون بصيغة فيها بنفس الوقت ميثاق عيش وميثاق مواطنة أي علمانية في سياقها المشرقي. فخشبة الخلاص أشار اليها البابا بينيديكتوس في سينودوس الشرق الأوسط، حول العلمانية الإيجابية التي قد تجمَع اللبنانيين بالوحدة والتنوع، في حين هم اليوم منغمسين بالطائفية والمذهبية. فهل يذكرهم اليوم البابا ليون 14، قيادات دينية وزمنية، بالمطلوب منهم وبجدلية المهم والأهم؟ من الرب نطلب

اما في تركيا سيُذّكِّر بخطابات اسلافه التي شددت كلها على ضرورة احترام قيم التعددية واحترام حرية التعبير وحرية المعتقد وكل الحريات الدينية والمدنية. في اسطنبول سيزور البابا المسجد الازرق الكبير وهي رائعة المهندس المعماري الشهير سينان وهو من الجانيسير ومن اصول مسيحية، الذي هندسها على قياس كاتدرائية آيغيا صوفيا التي تقابلها والتي لن يزورها البابا ليون، ربما لكيلا يُقال انه يوافق على تحويلها الى مسجد. وتركيا لها أيضا بعد تاريخي في الزيارات البابوية لكونها ارض بيزنطيا القديمة وأرض المجامع المسكونية السبعة ينابيع الايمان وجذور المسيحية من الشرق الى العالم. الجديد المفصلي اليوم من الناحية الجيوسياسية، نسبة للزيارات القديمة، هو محورية تطور الدور والموقع التركي ليس فقط في أسيا الصغرى وفي أسيا الوسطى، بل أيضا في سوريا ولبنان والشرق الأوسط، ووجودها أيضا بنفس الوقت في ضفة الأطلسي، وعلى ضفة روسيا ومحور دول البريكس. 

اما البعد المسكوني قي زيارة تركيا، فهو على أهمية كبرى ابضا، وفيه تحديان على الأقل. التحدي الأول هو الاختبار المسكوني الاول للبابا الجديد من خلال زيارة البطريركية المسكونية في الفنار في اسطنبول في عيد الكرسي الرسولي الارثوذكسي، كرسي روما الجديدة، القسطنطينية، اي عيد الرسول اندراوس، كما يقول التقليد المتبع بين روما والقسطنطينية منذ ١٩٦٤ حيث سيتم التوقيع على اعلان مشترك بين روما الاولى وروما الثانية. اما التحدي الثاني، ستُختبر فيه ايضا قدرة البابا الجديد على المُوازنة بين علاقة الفاتيكان التقليدية مع كرسي القسطنطينية، دون إعطائها الحصرية كبوابة للعالم الأرثوذكسي، وعلاقة روما مع كرسي موسكو، التي يحرص عليها البابا الجديد ايضا كما كان يحرص عليها البابا فرنسيس من خلال الانفتاح الاستراتيجي الذي أجراه مع البطريرك موسكو كيريل، في كوبا في 2016 حين توقيع اعلان كوبا والتي لم تنقضه حرب روسيا في اوكرانيا.
اما في احتفالية نيقية فستشارك الوفود الكنسية، ومنها وفد البطريركية الارثوذكسية الانطاكية التي شرفني غبطة ابينا البطريرك يوحنا العاشر الحبيب ان اكون في عداده، ستشارك البطريرك برثولماوس والبابا ليون الرابع عشر، مع الوفود الرسمية، في احتفالية نيقية في المكان الذي يشهد على بقايا اطلال البازيليك القديمة، بازليك القديس نيوفيطوس قرب البحيرة الشهيرة على مقربة من قصر الامبراطور حيث عقد المجمع المسكوني الاول.

أرثوذكسيا، هناك من يضع هذه الاحتفالية في إطار وسياق شكلي بحت، وينتقد مشاركة الكراسي الارثوذكسية بها، في ظل النزاعات والتفككات الارثوذكسية الحالية. بالطبع، الانقسامات الارثوذكسية مؤلمة، ولكن لها أسبابها الموجبة وحيثياتها المؤسفة التي يجب مقاربتها بروح الانجيل وبوعي لجدلية المهم والأهم، وباقتحامية جريئة وبناءة. ويذهب هذا البعض في التحليل الى ابعد من ذلك، فيجعل من هذه الاحتفالية اداة لمؤامرة على المجمعية الأرثوذكسية وتأكيد لأولية ارثوذكسية من نوع اخر تجعل من بطريرك القسطنطينية أول دون متساوين، وليس اول بين متساوين، كما هي الحال الى اليوم وكما ستبقى، ويتهم من يشارك في احتفالية نيقية انه يشارك بهذه المؤامرة. 

مهلا يا سادة. علنا لا ننسى ان تاريخ الكنيسة كله كان تاريخ انقسامات ونزاعات، يقابلها مستقيمو الرأي بتحديات شهادة الايمان المستقيم والتمسك بالكنائسيات الصحيحة كما حددها آباء الكنيسة والمجامع المسكونية. وعلنا لا ننسى ان انطاكية التي تعرف جدلية المهم والأهم منذ البطريرك بطرس الثالث الذي انَّبَ في ١٠٥٤ بابا رومية وبطريرك القسطنطينية على السواء، مذكرا إياهما بجدلية المهم والاهم طالبا منهم أن لا يجعلوا من امور ليست عقائدية، تحجُّرات عقائدية، قد تستند الى واقع ظرفي، ولكن فيهاُ نفخٌ كبير بالأوهام. وعلنا لا ننسى ان انطاكية لم ولن تساوم على اي شبر من استقامة الرأي، ولا يؤخذ توقيعها على اي قرار بمجرد مشاركتها باحتفالية. وعلنا لا ننسى أيضا، ان قراءة عناصر وأسباب التفكك الأرثوذكسي، لكي تكون قراءة موضوعية، يجب ان تتم ليس بعين واحدة، بل بعينتان. فمسؤولية القطبين المتنافسين أساسية ويجب مراجعتها، ومسؤولية انكفاء الكنائس الأخرى أيضا كبيرة ويجب مراجعتها. 

أخطار عالم اليوم تتطلب من الجميع شرقا وغربا، منهجية مراجعة نقدية للمسارات وتتطلب السير بمناهج التنقية والغربلة بين ما هو مهم وما هو اهم، وتقضي بضرورة الخروج من منطق التراشق بالتهم، فوحدها القراءة الموضوعية هي كفيلة بأن تكون بناءة ومثمرة كنيسا. الجديد الذي يمكن ان يقدمه البابا الجديد هو استعداده للسير بمسار التنقية للسير معا نحو الوحدة. وهذا ما تشير اليه رسالته الرسولية عشية الزيارتين وهذا ما يشير له أيضا بعض الإشارات البابوية تجاه الأرثوذكسية عندما تمت مثلا، بحسب مطران بيسيدية، أيوب، التابع للبطريركية المسكونية، الذي كان حاضرا، تمت تلاوة دستور الايمان النيقاوي القسطنطيني كما وُضع في مجمعي نيقية والقسطنطينية دون أضافة "الفيليوكويه" التي يرفضها الأرثوذكس، وذلك في لقاء روما الذي ترأسه البابا ليون 14 في 14 أيلول 2025 في لقاء مسكوني حول الشهداء الجدد. 

 هل من نوافذ نور تحمله الزيارة الفاتيكانية الى شرقِ متأزم ومُتأرجِح بين القديم الجديد والجديد القديم؟ الزيارة ستتبع سكة الحديد التقليدية للزيارات السابقة لتركيا وللبطريركية المسكونية وللبنان. لكن الجديد المفصلي فيها هو الظرف التاريخي الحالي لعالم متأزم، يتفلت كل يوم أكثر فأكثر، من أسس وقواعد النظام العالمي والقانون الدولي الذي نشئ بعد الحرب العالمية الثانية، عالم متحول قِيَمِيّاً، يتناقض أكثر فأكثر مع حقيقة الكنيسة وجوهر مقاييسها ومتطلبات شهادتها ويسعى الى تهميش الكنيسة، شرقا وغربا. فحوار المحبة دون حوار الحقيقية لا يوصل الى الوحدة. كما ان حوار الحقيقة دون حوار المحبة، التي تقتضي اللقاء مع الاخر حتى ولو كنت على اختلاف وخلاف معه، يُعيق الوحدة وإعلان الحقيقة المشتركة الواحدة المستقيمة. فهل نعي سوية الاخطار التي تهددنا ونعي بضرورة مُرافقة حوار المحبة مع حوار الحقيقة، من اجل الوصول الى الوحدة المسيحية المرجوة؟ الي الرب نطلب!

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 11/27/2025 1:37:00 PM
بعد عامٍ على الهزيمة، تسلّط رؤية نابليون الضوء على أسباب خسارة الحزب.
شمال إفريقيا 11/27/2025 10:52:00 AM
وفاة الإعلامية المصرية هبة الزياد بشكل مفاجئ خلال نومها، في رحيل غير متوقع شكّل صدمة واسعة لدى متابعيها
الولايات المتحدة 11/27/2025 10:27:00 PM
في لحظة اكتشاف هوية المشتبه به في إطلاق النار على جنديين في  الحرس الوطني وإصابتهما بجر,ح خطرة، وحد اليمينيون، صناع رأي وجماهير لا فرق، خطابهم: إنه الإرهاب الإسلامي.
لبنان 11/26/2025 3:37:00 PM
من خلال الكشف الذي أجرته شعبة المعلومات، تبيّن أن أفراد العصابة أحدثوا فجوة في الجدار الخلفي للمحل من جهة منزل مهجور، وتمكّنوا عبرها من الوصول إلى متخت المتجر.