أسرار الأيام السوداء في إيران... ماذا يريد النظام من حملة الـ21 ألف معتقل؟
منذ انتهاء المواجهة الواسعة بين إيران وإسرائيل، تشهد الجمهورية الإسلامية واحدة من أكثر المراحل الأمنية حساسية منذ عقود. فالحرب لم تنتهِ بانسحاب الطائرات المسيّرة والصواريخ من المشهد العسكري؛ بل أعادت فتح الجبهة الأخطر، الجبهة الداخلية. ما يجري اليوم داخل إيران من اعتقالات واغتيالات وإعادة هيكلة أمنية ليس مجرد حملة ظرفية، بل مشروع لإعادة ضبط الإقليم من الداخل، ومحاولة إنتاج “نظام داخلي جديد” يمنع أي فرصة لاهتزاز السلطة في مرحلة يُتوقّع فيها ضغط دولي متصاعد بعد التراجع الكبير في النفوذ الإقليمي.
منذ الأسابيع الأولى بعد وقف إطلاق النار، ظهرت مؤشرات على أن السلطة انتقلت من سياسة “امتصاص الغضب” التي اتّبعتها بعد احتجاجات 2022، إلى سياسة “الضبط الحاسم” التي تتعامل مع أي صوت مختلف بوصفه تهديدًا وجوديًا. اعتقالات التي بلغت حسب بيانات الشرطة الايرانية 21 الف معتقل، شملت أكاديميين، صحفيين، ناشطين، رجال أعمال، وحتى وجوهًا دينية. اللغة الرسمية تتحدث عن “شبكات اختراق من الموساد او الCIA ”، لكن الواقع يشير إلى أن عددًا كبيرًا من هؤلاء هم من التيار الإصلاحي أو من الأصوات المدنية التي عادت إلى طرح أسئلة كبيرة حول الحرب وتكلفتها، وحول مستقبل الدور الإقليمي لإيران.
في موازاة الاعتقالات، تتصاعد وتيرة الاغتيالات الغامضة داخل الداخل الإيراني، وغالبًا ما تُسجَّل ضد مجهول أو تُربط بخلايا "معادية". لكن التوقيت، وهو ما بعد الحرب مباشرة، يوحي بأن الدولة تريد تفكيك أي شبكات قد تراها خطرة على الوحدة الأمنية أو على سردية “الانتصار الاستراتيجي”، وهي السردية التي تحاول السلطة الحفاظ عليها لإقناع الشارع بأن الحرب كانت ضرورة دفاعية وليست كارثة سياسية واقتصادية.
أحد أكثر التحولات لفتًا للنظر هو تشديد القبضة على الأطراف غير الفارسية، في بلوشستان وكردستان وخوزستان تحديدًا. هذه المناطق تعاني أصلًا من حساسية سياسية واجتماعية، وقد تأثرت أكثر من غيرها بتبعات الحرب. السلطات الإيرانية تخشى أن يتحول التوتر الاقتصادي والسياسي في هذه المناطق إلى شرارة جديدة لحركة احتجاجات أوسع، لذلك يعكس التصعيد فيها محاولة استباقية لمنع أي نشاط سياسي غير مركزي.
من جهة أخرى، يلمس المتابع أنّ الأجهزة الأمنية الإيرانية نفسها تمرّ بمرحلة إعادة تنظيم.
أظهرت الحرب حجم الاختراق الإسرائيلي داخل البنية الاستخباراتية، من اغتيال قيادات إلى استهداف منشآت. وردّ النظام على ذلك ليس فقط بتحقيقات داخلية، بل أيضًا بعمليات عزل، وإعادة توزيع مسؤوليات، وضخّ وجوه جديدة أكثر تشدّدًا في الهرم الأمني. النظام يحاول اليوم إعادة بناء منظومة أمنية تعتبر نفسها في سباق مع الوقت، لأن أي تراخٍ في الداخل سيعني خسارة ما تبقى من أوراق في سبيل حماية النظام.
لكن البعد الأكثر أهمية هو انعكاس هذا الوضع الداخلي على الدور الإقليمي لإيران. فبعد الحرب، تزايد الضغط الدولي لعزل النفوذ الإيراني في العراق ولبنان. وفي ظل هذا الضغط، تصبح أي نقطة ضعف داخلية خطرًا مباشرًا على ما تبقى من القدرة التفاوضية لطهران. لذلك، يبدو أن النظام يريد أن يقدّم صورة “الدولة المتماسكة” القادرة على السيطرة على جبهتها الداخلية قبل العودة إلى طاولة التفاوض الكبرى.
بالمقابل، يواجه النظام تحديًا جديدًا، المزاج الشعبي. فالحرب الأخيرة لم تُقنع الإيرانيين بأنها خطوة دفاعية ضرورية؛ بل عمّقت الشعور بأن البلاد تُدار وفق حسابات إقليمية لا تدخل في مصالح المواطن الإيراني الذي يواجه التضخم، العقوبات، وتراجع الخدمات. ومع توسّع حملة القمع، تتسع أيضًا دائرة التململ الصامت، وهذا ما يفسر خوف السلطة من أي تجمع صغير أو صوت نقدي فردي.
إن موجة الاعتقالات والاغتيالات الحالية ليست معزولة عن السياق؛ إنها جزء من “مرحلة انتقالية” تمرّ بها إيران بعد الحرب. النظام يدرك أن عهداً إقليمياً جديداً يُصاغ اليوم، وأن قدرته على البقاء لاعباً كبيراً تعتمد على صلابته الداخلية قبل أي شيء آخر. لذلك، يتعامل مع الداخل بميزان شديد الحساسية، ضربات متتالية لإخماد أي احتمال لعودة الشارع، وقراءة دقيقة لموازين القوى داخل الأجهزة الأمنية، ومراقبة حثيثة لردود التغيرات الإقليمية على نفوذه.
بمعنى آخر، إيران اليوم ليست في مرحلة صراع خارجي فقط، بل في معركة لإعادة تشكيل بنيتها السياسية والاجتماعية. والسؤال الحقيقي الذي تطرحه هذه اللحظة هو هل يستطيع النظام أن يستمر في هذه المعادلة الصعبة — القبضة الأمنية الصلبة مع إعادة المحاولة الانخراط الإقليمي الواسع — دون أن يدفع ثمن عدم معالجة الجذور الداخلية للأزمة؟ أم أن الانفجار الداخلي هي مسار حتمي قادم نحو إيران؟
نبض