فاروق غانم خداج
كاتب لبناني وباحث في الأدب والفكر الإنساني
قراءة في أطروحة الشيخ الدكتور سامي أبي المنى
في خِضَمِّ المناخ الإقليمي المتشظّي، والتاريخ اللبناني الحافل بالتوترات الطائفية التي كثيراً ما هددت كيان الدولة، يظلُّ الحوار الإسلامي – المسيحي ركناً أساسياً للتعايش، وموضوعاً محورياً لتعزيز هذا التفاهم الوطني باستمرار.
وفي هذا السياق، تأتي أطروحة الشيخ الدكتور سامي أبي المنى – شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز حاليًا – التي نال بها درجة الدكتوراه وتحولت إلى كتاب بعنوان «الحوار الإسلامي – المسيحي في لبنان: رؤية الموحدين الدروز»، لتكشف عن رؤية طائفةٍ وقفت غالباً في الوسط، ساعيةً إلى تحقيق التوازن في معادلة لبنان المعقدة.
وقد تناول الشيخ الدكتور سامي أبي المنى في أطروحته مفهوم الحوار من زوايا متعددة، فجمع بين البعد النظري والبعد الميداني. فهو لم يكتفِ بعرض مقولات لاهوتية أو نصوص فكرية، بل درس مسار الحوار في التجربة اللبنانية نفسها، وكيف تحوّل من فكرة دينية إلى ممارسة اجتماعية ووطنية أسهمت في صون الكيان. اعتمد في ذلك على وثائق وبيانات ومداولات رسمية، ليُبرز أن الحوار ليس مجرد مجاملة بين الطوائف، بل فعل تأسيسي لإعادة بناء الثقة داخل المجتمع اللبناني.

وفي جانب آخر من بحثه، قارن الشيخ أبي المنى بين نظرة الموحدين الدروز إلى الحوار، ونظرة سائر المذاهب الإسلامية والمسيحية، فاستخلص أن التوحيد، كفلسفة روحية وعقلية، يؤسس بطبيعته للانفتاح وقبول الآخر. وقد أبرز كيف أن الموروث العقلي والإنساني في الفكر الدرزي، القائم على المعرفة والمحبة، يُمكِّن أبناء الطائفة من أن يكونوا جسورًا بين الجماعات المتباينة، لا أطرافًا متقابلة. بهذا المعنى، تصبح الأطروحة مساهمة فكرية في بناء ثقافة لبنانية جامعة، أكثر منها دراسة طائفية محصورة.
يمتدُّ هذا العمل الموسوعي، الصادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون في بيروت (في نحو 590 صفحة، رقم الإيداع الدولي 978-6140121065، بين عامي 2016 و2017)، ليشكّل مرجعاً لا غنى عنه في مجاله. ولا تقتصر قيمته على تحويل الأطروحة الأكاديمية إلى كتاب متاح للجمهور فحسب، بل في كونه يقدّم قراءة عميقة ومتعدّدة الأبعاد لموقف طائفة الموحدين الدروز، التي تمثّل أحد المكوّنات الأساسية والفاعلة في المشهد اللبناني.
منهجية مركّبة ورؤية شاملة
تميّز منهج أبي المنى بالتركيب والشمولية، إذ لم يكتفِ بالتحليل النظري أو السرد التاريخي، بل اعتمد ثلاث دعامات رئيسية:
1. التحليل التاريخي: لتتبُّع جذور الفكر التوحيدي ومواقفه التقليدية من "الآخر".
2. الدراسة النصّية: لتحليل خطابات الزعماء الدينيين والسياسيين والبيانات الصادرة عن المؤسسات الطائفية.
3. البحث الميداني: من خلال المقابلات والملاحظات المباشرة، مما أضفى على الدراسة بُعداً واقعياً حيّاً، وكشف أحياناً عن الفجوة بين الخطاب الرسمي والممارسات الاجتماعية في القرى والبلدات.
هذه المقاربة المزدوجة – بين النص والممارسة، وبين النخبة والجماعة – مكّنت المؤلِّف من تفكيك الصور النمطية، وتقديم تحليل ديناميكي يعكس التباينات داخل الطائفة نفسها وطبيعة علاقاتها المتطوّرة مع محيطها المسيحي والإسلامي.
أهمية الدراسة: سدّ فراغٍ معرفي
تنبع أهمية هذا العمل من عوامل عدّة:
· الندرة: فهو من الدراسات القليلة التي تتناول رؤية طائفة الموحدين الدروز لمسألة الحوار الديني، سادّاً بذلك فراغاً واضحاً في المكتبة العربية.
· موقع المؤلِّف: يجمع الشيخ الدكتور سامي أبي المنى بين الشرعية الأكاديمية (بماجستير في العلاقات الإسلامية – المسيحية ودكتوراه من جامعة القديس يوسف) والشرعية الدينية كـ شيخ عقل للطائفة حاليًا، مما أتاح له مقاربة موضوعه بحساسية وعمق.
· التوقيت والإتاحة: صدر الكتاب في مرحلة دقيقة من تاريخ لبنان، فكانت نقاشاته ذات صلة مباشرة بصانعي القرار والباحثين والمهتمين بالشأن العام.
النتائج الرئيسية: الحوار خيارٌ استراتيجي مشروط
تخلص الأطروحة إلى نتائج دقيقة، أبرزها:
· أنَّ الموقف الدرزي الداعم للحوار ليس تعبيراً عن مثالية فكرية فحسب، بل هو خيار استراتيجي تشكّل عبر التاريخ وتراكمت عليه تجارب من العنف والإقصاء.
· أنَّ هذا الانخراط في الحوار محكوم بضوابط رئيسية، في طليعتها حماية الهوية الجماعية للطائفة وموازنة المصالح الوطنية العليا للبنان. فهو حوار منفتح لا يتنازل عن الخصوصية.
· أنَّ التعاون الدرزي – المسيحي، وخصوصاً في المناطق المشتركة، يرتبط بظروف سياسية واقتصادية محلية أكثر مما يرتبط بأبعادٍ لاهوتية. فالحوار يزدهر حيث تزدهر الثقة والمصالح المشتركة.
قراءة نقدية: إنجازات وتساؤلات
على الرغم من متانة الأطروحة وعمقها، تبقى بعض الأسئلة مشروعة:
· نقاط القوة: تتجلّى في جرأة الطرح، والمنهجية المركّبة التي تمزج بين التحليل التاريخي والاجتماعي، والموضوعية التي تبتعد عن التعميم والانحياز.
· نقاط للتفكير: يمكن التساؤل عمّا إذا كان التركيز على الخطاب الرسمي والنخبوي، رغم محاولة تجاوزه ميدانيًا، قد أغفل بعض الأصوات الشعبية داخل الطائفة التي قد تُبدي تحفّظاً أو رفضاً لمشاريع الحوار. كما أنَّ البعد الاقتصادي – الاجتماعي في تشكيل هذه الرؤية يحتاج إلى بحثٍ أوسع في المستقبل.
خاتمة: إرثٌ معرفي ودليلٌ عملي
في الختام، لا يشكّل كتاب الشيخ الدكتور سامي أبي المنى إضافة نوعية إلى المكتبة اللبنانية والعربية فحسب، بل هو أيضاً إرثٌ معرفي يقدّم خرائط طريقٍ لفهمٍ أعمق للتركيبة اللبنانية وتوازناتها. إنه عمل لا يستعصي على الأكاديمي المتخصص، وفي الوقت نفسه يقدّم للسياسي والاجتماعي رؤى عملية يمكن البناء عليها في صياغة سياساتٍ حوارية أكثر واقعية واستدامة.
إنَّ الحوار في مجتمعٍ متعدّد مثل لبنان ليس خياراً فكرياً ثانوياً، بل هو ضرورة وجودية، ورؤية طائفة الموحدين الدروز له، كما قدّمها هذا الكتاب، هي دليلٌ على عمق هذه الضرورة وجمالها معاً.
نبض