من كابول إلى باماكو: كيف يتحوّل "الحكم الهجين" إلى اتجاه عالمي؟
تتبدّل خريطة الصراعات والجغرافيا البشرية للإرهاب اليوم بطريقة تدفعنا لإعادة النظر في الطريقة التي تتشكّل بها سلطة الجماعات المسلحة المصنّفة إرهابية. فبدل الصورة التقليدية التي تحصر هذه الجماعات في مربع العمل السري والهجمات المتفرقة، نرى نمطاً جديداً يتوسع بسرعة: جماعات لا تكتفي بقتال الدولة، بل تبني شكلاً من الحكم البديل، وتوفر خدمات، وتفرض قوانين، وتخلق واقعاً سياسياً لا يمكن تجاهله. هذا ما يمكن تسميته بــــــ الحكم الهجين، وهو اتجاه يتصاعد بقوة ويعيد تشكيل موازين النفوذ في مناطق متعددة من العالم اليوم مدفوعاً بسيرورة العولمة وآلياتها السياسية والتكنولوجية.
فكرة الحكم الهجين ليست نظرية سياسية مجردة. هي ناتج تطور تدريجي أدركت من خلاله الجماعات الإرهابية أن البقاء لا يعتمد فقط على السلاح، بل على القدرة على تقديم وظائف الدولة عندما تتراجع الدولة نفسها. هذا النموذج يحقق لها شرعية اجتماعية ويمنحها قدرة على بناء قواعد نفوذ طويلة الأمد، مع الحفاظ على بنيتها العقائدية والأمنية. بكلمات أبسط: القوة الناعمة للجماعة أصبحت جزءاً من قوتها الصلبة.
تجربة طالبان كانت نقطة التحول الأولى. فالانتصار السريع في كابول عام 2021 لم يكن مجرد حدث عسكري، بل كان ثمرة تراكم سنوات من الحكم الموازي الذي أداره مقاتلو الحركة في الريف. لقد كانت طالبان تمارس نوعاً من الإدارة المحلية قبل دخولها العاصمة بسنوات، وهذا جعل انتقالها إلى السلطة أمراً مقبولاً — أو على الأقل مفهوماً — لدى شرائح واسعة من السكان. بالنسبة لجماعات أخرى، كان هذا درساً عملياً بأن ما يُسمى "الصبر الجهادي" يمكن أن يُثمر، وينجح بشكلٍ باهر. وأن بناء النفوذ التدريجي قد يكون أنجح من المواجهة المباشرة.
في سوريا، برز نموذج مختلف لكنه قريب في جوهره: هيئة تحرير الشام. الجماعة التي انطلقت كتنظيم إرهابي صلب، اتجهت خلال السنوات الأخيرة إلى بناء إدارة محلية عبر حكومة الإنقاذ، وقدمت خدمات، وبنت مؤسسات، وتعاملت مع تحديات الأمن والاقتصاد والتعليم. سواء اتفقنا أو اختلفنا مع هذا المشروع، فالنتيجة واضحة: الهيئة تحولت إلى سلطة أمر واقع تملك أدوات حكم تعجز عنها أطراف سورية أخرى. الأهم أن هذا النموذج لفت انتباه عواصم كبرى، وفتح نقاشاً دولياً جديداً حول إمكان التعامل مع فصائل مسلحة ومُصنفّة إرهابية عندما تصبح جزءاً من المعادلة السياسية على الأرض.
النموذج الأشد وضوحاً اليوم ليس في المشرق، بل في أفريقيا. وبالتحديد، في مالي حيث تحاول جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، الفرع الأقوى لتنظيم القاعدة في الساحل والصحراء، تطبيق نسخة خاصة بها من الحكم الهجين. الجماعة وسّعت عملياتها من الأطراف الريفية إلى محيط العاصمة باماكو، وبدأت تُطبق استراتيجية خنق تدريجي عبر السيطرة على الطرق الحيوية ومحاور التجارة وعمليات خطف الرهائن لطلب الفدية المالية. الفكرة ليست احتلال العاصمة مباشرة، بل خلق حالة اختناق تجعل الدولة عاجزة عن توفير الأمن والخدمات، ثم تقديم نفسها كبديل قادر على إدارة المناطق أكثر مما تفعل الحكومة نفسها.
ما يجعل التجربة المالية مقلقة هو أن الجماعة لا تبحث عن نصر ساحق، بل عن شرعية محلية. هي تريد أن يُنظر إليها في القرى والبلدات بوصفها الحكم الواقعي الذي ينظم الحياة اليومية، ويقدم القضاء العرفي، ويضمن نوعاً من الأمن الذي فشلت الدولة في تحقيقه. هذا ليس مجرد توسع عسكري، بل مشروع سياسي واعٍ يستغل تراجع الدعم الدولي وانسحاب القوات الأجنبية وتآكل وهشاشة مؤسسات الدولة. ومع مرور الوقت، يتحول هذا النفوذ إلى سلطة فعلية لها القدرة على تحدي الدولة في قلب عاصمتها.
القاسم المشترك بين هذه التجارب هو أن الجماعات الإرهابية أصبحت تفهم الفجوات التي تتركها الدول، وتعمل على ملئها بدل مواجهتها مباشرة. عندما يقدم فاعل مسلح خدمات، ويضمن الأمن، ويؤسس محاكم محلية، فإنه يخلق اعتماداً يصعب كسره لاحقاً. وهذا ما يجعل المواجهة العسكرية وحدها غير كافية. لأن المعركة الفعلية لم تعد تدور حول الأرض، بل حول الشرعية.
العالم يواجه الآن سؤالاً صعباً: كيف نتعامل مع جماعات تتحول من خصوم أمنيين إلى سلطات محلية؟ تجاهل هذه الديناميكية لم يعد خياراً. النموذج يتوسع، من إدلب إلى الساحل، ومن أفغانستان إلى بحيرة تشاد. وإذا لم تُعد الدول صياغة مقاربتها، وتبني استراتيجية تجمع بين الأمن والتنمية والحوكمة الرشيدة، سنرى هذا الاتجاه يتكرس كواقع عالمي جديد.
الحقيقة أن الحكم الهجين لم يعد ظاهرة محلية مرتبطة بساحة معينة. إنه تجربة تنتقل من مكان لآخر، وتتعلم من النجاحات والإخفاقات، وتتكيف مع الثقافات والظروف الاقتصادية. والأخطر أنه يوفر للتنظيمات الإرهابية طريقاً طويلاً لكنه فعال نحو النفوذ السياسي. ما يحدث في مالي اليوم هو جزء من هذا المشهد. وما يحصل في سوريا وأفغانستان يقدم نماذج متقدمة منه. وإن لم تُدرك الحكومات ذلك مبكراً، فقد تجد نفسها في المستقبل أمام سلطات بديلة أكثر ثباتاً مما تتوقع.
نبض