يوسف طراد
المتفحّص للجغرافيّة التي احتضنت الكنيسة المارونيّة أيّام الاضطهاد، وكانت استمراراً لنشر الوعي الروحاني، غالباً ما يتساءل كيف حدث اللقاء بين البطاركة الأوائل والمكان الذي لجؤوا إليه، وملؤوه بالروحانيّة الحقّة والمقاومة المستمرّة وحبّ الأرض. وكيف كان هذا اللقاء؟ وكيف حدث أن رفعوا وادي قاديشا إلى أورشليم السماويّة، تلك الأرض التي كانت محفوفة بالمخاطر؟ هي تساؤلات تُحيلنا إلى سُبل غرس الإيمان في النفوس البشريّة؛ فحين يكون الراعي في أرضٍ مقدّسة تكون الرعيّة في حالة ترقّب مستمر، يكثر فيها السماع عن معضلاتها، وكلّ ما يبعث على حتمية وجودها في أرضها. وهذه الحالة تبعث على انتظار الفرج، بفعل كثافة تلقّي سماع خطاب الرب عبر الراعي الصالح.
على مثل نخبٍ لبنانيّة عديدة، سياسيّة أو ثقافيّة أو إعلاميّة، أبدى أهالي قرية الدّيمان "عتبة الوادي المقدّس" أشكالاً عدّة من الاعتراض على قرارات الكنيسة بشأن أراضيها، خارج إطار السياسات الضيقة. فمنذ صرختنا الأولى في هذه الحياة، ونحن نسمع صراخ أهالي تلك القرية، وقد ذكّرتنا القبضة المرتفعة في ساحات ثورة السابع عشر من تشرين، بقبضة على منشور رفعه أهالي الدّيمان على جدران الطرقات في منطقة الجبّة في سبعينات القرن المنصرم. واستمر الأهالي منشغلين بالمسألة وذيولها المأساويّة، على الرغم من الآثار التهجيريّة، طوال حقبة الحروب المتتالية، وما اقترن بها من احتلال لمنطقة بشري من قبل الجيش السوريّ. وفي امتداد فصول ذلك التفاعل الاجتماعي الدّيمانيّ، خطت مقاربات الأهالي خطوات نحو مساءلة الأوضاع لدرء خسارة أرضهم وهجرتهم، وللأسباب التي أفضت إلى ما آلت إليه حاليّاً، حيث لا اتّصال بين الراعي والرعية، على الرغم من محاولة الأخيرة عدّة مرّات طلب لقاء، فرأس الكنيسة ومستشاروه وأمناء سرّه غائبون عن السمع.

لن نراجع الوثائق والصكوك وشهادات القيد، ولسنا قضاة للحكم بأحقيّة القضيّة، لكننا نستمع إلى استغاثة الأهالي، التي تنذر بزلزال اجتماعيّ هائل، يدمّر اطمئناناً مكذوباً ويقينيّات متكلّسة، ويخرّب مجتمع قرية هانئة شامخة بربوضها على كتف ذلك الوادي السحيق. فالسؤال عن أزمة الحاضر المتعلّقة بأراضي تلك القرية، يفتح ورشة تفكير نقديّ لممارسات المؤتمنين على الكنيسة المتعاقبين وقراراتهم المتناقضة، ومناسبة للنقد الذاتي الذي يتعلّق بالكنيسة والمجتمع والسلطة والسياسات... فهل من أجوبة على أسئلة جذريّة؟ لا جواب ما دام "الرعيان بوادي والقطعان بوادي".
إنّها الدّيمان يا سادة! القرية التي تتمّ فيها فلسفة الإتيقا التي تكلّم عنها "إيمانويل ليفينس". فهي الفلسفة الأولى التي تعتمد على التوجّه نحو الآخر الإنساني والحوار معه وجهاً- لوجه، متّخذاً من الوجه ركيزة أساسيّة لفلسفته، حيث يصف الوجه بالفقر والضعف والعوز، وها هنا في الدّيمان تتجسّد هذه الفلسفة عندما تأتيها الرعية من مختلف المناطق اللبنانية، حاملة فقرها إلى الإيمان، وضعفها الروحاني، وعوزها إلى التوبة. وهذه التعبيرات الاجتماعيّة تجبر الراعي الصالح على الإستجابة للرعية وتحمّل المسؤوليّة عنها والتضحية من أجلها.
لماذا هذه الفلسفة تطبّق من مجمل أبناء الرعية على جميع الأراضي اللبنانيّة -وإن حكمها برستيج معيّن- ومفقودة ما بين أبناء الديمان وبين المؤتمنين على الكرسي البطريركي. أليس من الأفضل أن يسمع البطريرك صراخ الأهالي قبل تهجيرهم من أراضيهم، وقبل نشر الغسيل على حبال الدوريّات والمواقع الإلكترونيّة وصفحات التواصل الإجتماعي التي لا ترحم؟
نبض