قصة اليونيفل والديبلوماسية اللبنانية... نشأة القوة الدولية ولبننة الجنوب

آراء 07-11-2025 | 11:07

قصة اليونيفل والديبلوماسية اللبنانية... نشأة القوة الدولية ولبننة الجنوب

في عهد الرئيس إلياس سركيس، لم ينأ لبنان بنفسه عن القضية الفلسطينية، بل رفض أن يبقى ضحيتها الكبرى بمصادرة منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك أرضه ونظامه كملاذ بديل عن فلسطين، فغدا قاعدة للعمليات الفلسطينية ضد إسرائيل انطلاقاً منه أو عبره، ممّا وفّر لها الذرائع لاجتياحه وإشعال حرب ضروس في جنوبه، الذي وقع بين الكماشة الإسرائيلية الفلسطينية، فلا يصدم أيّ فكّ منها الآخر إلا عبر لبنان.
قصة اليونيفل والديبلوماسية اللبنانية... نشأة القوة الدولية ولبننة الجنوب
آلية تابعة لقوات اليونيفيل. (أ ف ب)
Smaller Bigger

 جبران صوفان

سفير لبنان لدى الأمم المتحدة في جنيف سابقاً




في قراءتي القرارات الدولية المتعلقة بلبنان، أجد ما يُذكِّر بقوانين الإرث، وتحديداً مصطلحات الأصول والفروع والحصص المحفوظة، التي خبرتها كمحامٍ في مكتب المحاميين الكبيرين فؤاد بطرس وبهيج طبارة.            

وبانتقالي إلى السلك الخارجي اللبناني، تشرّفت بأن أكون مجدداً تحت إشراف فؤاد بطرس، وزيراً استثنائياً  في قدراته الفكرية والأخلاقية والديبلوماسية، متابعاً مع زملائي في وزارة الخارجية عام ١٩٧٨  أحداث "أعقد وأعرق جمهورية وأحلاها"، وفق ما يقول غسان تويني في كلماتٍ فيها من جوهر لبنان وخبزنا الجوهري، محدّثاً كسفير نادر عن لبنان والرئيس العصامي إلياس سركيس، ومآسينا وأحلامنا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ ١٢ تشرين الأول ١٩٧٨.

 

 

 

غسان تويني. (أرشيفية)
غسان تويني. (أرشيفية)

 

ظننْت في تلك المرحلة أن معظم أمم الأرض اقتنت حصصاً محفوظة في لبنان إلا اللبنانيين، إما لأن "أولياءهم" السياسيين، باستثناء قلّة، تغاضوا عن حقوق بلدهم، أو أن الدخلاء اعتبروا لبنان أرضاً مباحة ومحلّلة Terra nullius بلا أصول أو فروع، فسال لعابهم لمصادرتها أو لاحتلالها في تقاطع مُريب بين نهم الأخوّة والعداوة على حساب البلد. 

عقود مرّت ولا تزال سلامة لبنان من المحرّمات، وحرمة أراضيه مستباحة. ليس مجلس الأمن الدولي جادة الفرح، فلا نقصده للاحتفالات وإنما لنسأل عن حلّ لمشاكلنا والتجاسر على انتهاك حقوقنا. متحدّثاً أمام مجلس الامن الدولي، الجمعة بتاريخ 24 تشرين الأوّل عن مستقبل الأمم المتحدة في ذكرى تأسيسها الثمانين، قال أمينها العام  غوتيريش: "في كلّ ظل من هذه القاعة  تحيط بكم  أشباح الموت... يتعلّق المجلس بالآباء الذين فقدوا أطفالهم واللاجئين الذين طردوا من منازلهم  والجنود الذين ضحّوا بأطرافهم وإلى جانبهم يقف شيء آخر هو الأمل ". وربّ أزمات، مثل لبنان، تحتاج إلى منتهى الأمل والصبر  وتتطلب قرارات متعددة تماماً مثل وصفات الشاكي من أمراض مزمنة. ولولا الحرام والاحترام لكدت أقول الأمراض الخبيثة والمستعصية. فمن القرار ٤٢٥ (١٩٧٨) تفرّعت قرارات عديدة تحمل "جيناته"، انتهاءً بآخر "الفروع"، وهو القرار ٢٧٩٠ تاريخ ٢٨ آب ٢٠٢٥.

 

 

 الياس سركيس. (أرشيفية)
الياس سركيس. (أرشيفية)

 


بين هذا وذاك، ترد تباعاً قرارات وبيانات تعدّت روابط الخطوط لتكون مخطوطات عن محن وأزمات منطقة معدومة العافية وحتى الأمل بالتعافي.

ولئن كان القرار ٤٢٦ هو الابن البكر للقرار الأساسي، الذي حدّد آلية عمل وانتشار ومهام اليونيفل، فالقرار ١٧٠١ (٢٠٠٦) انفرد بالأهمية القصوى والشمولية والديمومة، فيما القرار ٢٧٩٠ (٢٠٢٥)  هو آخر الأصول الفتية والمختصّ بالمهارات البرمجية، إذ نصّ على خريطة طريق لإنهاء مهام القوة الدولية بحلول ٣١ كانون الأول ٢٠٢٦، فانسحابها وتصفيتها، من دون أن يعني ذلك بالضرورة تحقيق كافة أهداف تفويضها أو انقشاع غياهب الليل عن لبنان، أو النأي بلبنان عن مشكلات الشرق الأوسط أو الكفّ عن اختبار حلولها عبره.

وبالرغم من تصميم مجلس الأمن على إسدال الستار على اليونيفل بانسحابها المنظّم حتى آخر عام ٢٠٢٧  فإنه ترك نافذة مفتوحة بالطلب من الأمين العام للأمم المتحدة البحث عن "الخيارات المتاحة في ما يتعلّق بمستقبل تنفيذ القرار 1701"، بعد تجريده من آليته وتموضعه في آلية "ترتيبات وقف الأعمال العدائية" بين لبنان وإسرائيل، المؤرخة في ٢٦ تشرين الثاني ٢٠٢٤.



أولاً – نشأة اليونيفل، عذاب الولادة، مهارة الطبيب وصحة المولود.

إن استعراض نشأة اليونيفل وتطوّرها وآخر فصول عملها بموجب القرار ٢٧٩٠ يساعد في استقصاء بعض "الخيارات" التي ستلي رحيلها، وإن كنت أعتقد بأن إنهاء مهامها سيوفّر على القوة الدولية بالدرجة الأولى أعباء التحديات والتضحيات والتحامل عليها من قبل مختلف الأطراف المعنية، باستثناء الدولة المضيفة، راجياً ألا ترتّب التصفية أثماناً باهظة على بلد ساهم في تأسيس الأمم المتحدة عام ١٩٤٥ عبر أرقى مفكّريه الدوليين، الدكتور شارل مالك، وأقام أفضل العلاقات الديبلوماسية مع دولها، بقدر ما وثّق الروابط  مع أزمات العالم على ترابه الوطني!

لدى مراجعة محفوظاتي عن تلك الحقبة، والمراسلات الديبلوماسية بين بيروت ونيويورك، ومتابعتي ملف اليونيفل في فترات متعددة، ترسّخت لديّ القناعة بأن قوة الدفع الديبلوماسية آنذاك تشكّلت من ثلاثة أشخاص هم الرئيس إلياس سركيس، وزير الخارجية فؤاد بطرس، والمندوب الدائم السفير غسان تويني.

ومثل عملية اندماج الشركات العملاقة، ما حصل هو عملية دمج ثلاثة عقول لها خصائصها وميزاتها، لكنها تلتقي على سيادة لبنان وسلامة أراضيه ووحدة أبنائه وتخطّي المتاريس الطائفية والمكائد السياسية. كانت لتلك العقول هالة ثلاثية مشعّة في المحافل الدولية، بل إن تقاطع قيمها ورؤاها ومستوى خطابها واحترام جهودها كانت أشبه بالمعجزة في وقت الضيق، فكأنّ شمس لبنان كانت تشرق من مغيبه وغيبوبته.

في عهد الرئيس إلياس سركيس، لم ينأ لبنان بنفسه عن القضية الفلسطينية، بل رفض أن يبقى ضحيتها الكبرى بمصادرة منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك أرضه ونظامه كملاذ بديل عن فلسطين، فغدا قاعدة للعمليات الفلسطينية ضد إسرائيل انطلاقاً منه أو عبره، ممّا وفّر لها الذرائع لاجتياحه وإشعال حرب ضروس في جنوبه، الذي وقع بين الكماشة الإسرائيلية الفلسطينية، فلا يصدم أي فكّ منها الآخر إلا عبر لبنان.

وبين العمليات الفلسطينية المعزّزة بالتدفق الفلسطيني على لبنان ومخططات إسرائيل لتصفية حساباتها مع الفلسطينيين في جنوبه، كانت التكلفة باهظة على اللبنانيين، وزهيدة على المتحاربين الإسرائيليين والفلسطينيين، مقارنة بأهدافهم المتعارضة والنفيسة. وفي الحروب، مهما كانت أوجاع الضحايا البريئة مؤلمة، فإنها بنظر المتحاربين مجرّد "أضرار جانبية" collateral damage.

 من المعروف بأن مطامع "الوكالة اليهودية" بمياه لبنان قديمة، انجلت في بداية القرن الماضي بمطالبتها الخارجية البريطانية عام ١٩١٩ بضمّ منطقة الليطاني إلى "الكيان القومي"، واستعصى عليها ذلك. ولكن هجوم المجموعة الفدائية بالقرب من تل أبيب في ١١ آذار ١٩٧٨ أعطى الحجّة وشكّل الشرارة لإطلاق الحملة العسكرية الإسرائيلية بـاسم "عملية الليطاني" في منتصف ١٤-١٥ آذار ١٩٧٨، فالردّ عليها بحملة ديبلوماسية لبنانية أسفرت في غضون أربعة أيام عن اعتماد القرار ٤٢٥، تاريخ ١٩ آذار ١٩٧٨، الذي أنشأ اليونيفل. بالمختصر ، قبل القرار المذكور  استنزف اللجوء الفلسطيني المسلّح لبنان، وأكمل الإسرائيليون باحتلال جنوبه. إزاء الوضع السائد، دعا  القرار المعتدي إسرائيل إلى "سحب  قواتها حالاً" من كافه أراضي المعتدى عليه لبنان، ولكنه لم يتطرّق  بكلمة واحدة إلى فلسطين، فيما "الطرف غير المذكور" فيه، (والمعني بالنزاع المسلح في جنوبي لبنان) ، وفق ما يقول السفير تويني، هو منظمة التحرير الفلسطينية. 

 واكتفى القرار بأربع فقرات عاملة صريحة ومقتضبة لمشكلة معقدة تحاشى تفاصيلها، إدراكاً لكون كثرة التفاصيل تعيق التوافق، ومثل التيارات الساحبة يستحيل التحرّر من عقدها وشباكها، فيتعذّر الإنقاذ. هذا في واجهة القرار 425. أما في المضمون، فالمعنيون به هم الإسرائيليون والفلسطينيون على ساحة قتال لبنانية، وفي دولة  مضيفة للاجئين، وهي غير طرف في المعارك. وفي أسبابه الموجبة وخلفيّات مداولاته، يكمن عمق الأزمة وتداعيات اللجوء الفلسطيني إلى لبنان، وحرص أميركي على تلافي تصعيد ميدانيّ فيه، يسيء إلى فرص إنجاح مفاوضات لتحقيق سلام منفرد بين إسرائيل ودولة عربية محوريّة.

١-  في وصفٍ دقيق للأوضاع اللبنانية قبل "عملية الليطاني"، قال فؤاد بطرس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ ٣ تشرين الأول ١٩٧٧: "إن حرب لبنان كانت في أكثر جوانبها نتيجة لظلم ارتُكب ضد شعب طُرد من أرضه وحُرم وطنه، فانعكس الظلم ظلماً، وولّد العنف عنفاً في بلد الضيافة البريء مما أصاب فلسطين... إن التسامح وموقف لبنان المنفتح من العقائد والإنسان كأنما ارتدّا عليه، فأصبحت ميزاته وبالاً عليه.

٢-  وفي وصفٍ للأحوال بعد "عملية الليطاني"، قال السفير تويني في المحفل ذاته بتاريخ ١٢ تشرين الأول ١٩٧٨: "من أغرب المفارقات أن حروب لبنان المسالِم، بشتّى أشكالها، قد جعلته يدفع من الضحايا والخراب أضعاف ما دفعت كل الدول العربية التي اشتركت في حروب فلسطين". وأضاف "إن مجلس الأمن قد قرّر بمبادرة رائعة في آذار ١٩٧٨ تحصين لبنان بقوات سلام تبذل أنبل التضحيات".

ويتّضح بأن الموقف اللبناني والرسمي الثابت توخّى تقديم الشكوى اللبنانية إلى مجلس الأمن بتاريخ 15 آذار ١٩٧٨، والتريّث في طلب عقده لغاية 17 منه حتى التأكّد من نضوج "الحل الجذري" للمشكلة في الجنوب، والمتمثّل بأولويّتين متلازمتين هما الانسحاب الإسرائيلي من كافة الأراضي اللبنانية المحتلة، ومجيء قوات دولية وانتشارها في جنوبي لبنان، "لأننا لا نستطيع، والمواطنون لا يستطيعون أن يتحملوا دورة العنف القائمة على عمليات فلسطينية تقابلها اعتداءات إسرائيلية" (بطرس، المذكرات). وبتعبير آخر يقول تويني "إن هدفنا من الشكوى هو الوصول إلى نتيجة عملية لا الدخول في مزايدات إعلامية".

٣-  العراقيل أمام الدبلوماسية اللبنانية قبل القرار.

توجّب على الدبلوماسية اللبنانية تجاوز عدّة عقبات منها:

          - الانقسام النيابي اللبناني حول العمل الفلسطيني المسلح وكيفية مواجهة الإعتداءات الإسرائيلية.

-  الانقسامات والتناقضات والمفارقات والمزايدات العربية والصراعات الدولية وطلائع المتغيرات الإقليمية المتعلقة بمسار تفاوضي لسلام منفرد بين مصر وإسرائيل.

-  إلحاح بعض العرب على دعوة مجلس الأمن وفي صدارة اهتماماتهم عرض المشكلة الفلسطينية وإدانة إسرائيل (المتعذّرة)، بغضّ النظر عن القضية اللبنانية. وفي سياق التفاوض على مشروع القرار (٤٢٥)، بُذِلت محاولة لإجهاض مساعي لبنان للتفريق، في مشروعين منفصلين، بين انسحاب إسرائيل غير المشروط  وبين إرسال قوات طوارئ دولية بدلاً من التمسّك بمشروع واحد ومتكامل، وفق ما طلب لبنان، وتلافي مخاطر فشل أحد المشروعين أو الاثنين معاً.

- طغيان الانفعال عند البعض على القراءة الدقيقة والواقعية للإمكانات المتاحة، وتجاهل محاذير الطروحات الجامحة التي تصطدم لا محالة بالفيتو الأميركي.

٤-  ميزات الديبلوماسية اللبنانية وعوامل نجاحها.

اتّصفت الدبلوماسية اللبنانية باليقظة والفطنة والثبات و"الاختصار والحسم" أمام هوايات وأهواء بعض الأخوة لحماية القضية اللبنانية في نيويورك من مسالك متهوّرة وشعبوية. كما امتازت بقراءة متأنّية ومتعمّقة لموقف أميركي "حريص على سيادة لبنان ووحدة أراضيه... كعنصر اهتمام أساسي للولايات المتحدة... وطلب انسحاب إسرائيل"، وعلى العموم "إبداء تفهّم لمطالب العرب عندما لا تكون إسرائيل مهدّدة جدياً بأمنها" وبإدانتها. (المراجع: بطرس المذكرات ص ٢٧٩، تويني البرقية الصادرة الرقم ٤٩ تاريخ ١٦ آذار ١٩٧٨، البيان الأميركي الصادر عن الرئيس كارتر ووزير خارجيته فانس تاريخ ١٦ آذار ١٩٧٨).

وعليه، اعتُمِد القرار ٤٢٥ برعاية وصياغة أميركية تأخذ في الاعتبار متطلبات لبنان وملاحظاته على المشروع، وتستجيب لتوصية الأمين العام كورت فالدهايم، وتتقاطع مع طرح لوزير خارجية فرنسا  Louis de Guiringaud  ، عام 1977، بإرسال قوات دولية إلى جنوبي لبنان.

وبالنتيجة، نَفَذَ إنشاء اليونيفل التي أنيطت بها ثلاثة أهداف، زئبقية التنفيذ حتى تاريخه. ومن سخرية القدر أن تكون وكالة اليونيفل الممدّدة هي الأخيرة فيما أهدافها على ما يبدو باقية طالما الاحتلالات قائمة، وأدواتها مستمرّة، لتغدو مقاصد القرار شهادة ليس فقط على مأساة لبنان بل على قصور نظام السلام والأمن الدوليين، وحاجته – بدوره - إلى الصون والصيانة. ولا أتوقع أي تغيير إصلاحي في الأمد المنظور، فيما النظام الدولي آخذ في التصدّع نتيجة حرب الأقطاب، الأعضاء في مجلس الأمن، ومحاولات تطويع هذا النظام ليتماهى مع سياسة القطب الواحد.

ثانياً – معاني القرار ٤٢٥ وحمايته: لبننة الجنوب

 1-  لبننة الجنوب.

قد يتوقّف البعض ظاهرياً عند تدويل قضية الجنوب عام ١٩٧٨. هذا صحيح نسبياً، ولكن غاية الحكومة اللبنانية، من خلال بناء المؤسسات وبسط سلطة الدولة في عهد الرئيس سركيس، وعبر القرار الدولي، كانت "لبننة الجنوب وليس تدويله أو تدويل لبنان بأكمله"(غسان تويني، مقدمّةPeace-Keeping Lebanon)، مع الإشارة إلى أن المنطقة التي تعدّت "الخط الأحمر غير المرئي في لبنان (أي حدود انتشار قوات الردع العربية) كانت تشكو من الفوضى شبه الكاملة، ومن انعدام القانون (المرجع ذاته)، ومن أن التمركز الفلسطيني المسلّح والمتمادي غدا حصناً منيعاً أو ملاذاً بديلاً.

لذلك، فتمسّك الحكومة بتفويض القوة الدولية مهام محددة في جنوبي لبنان عكس رفضها القاطع استمرار ربط مصير الاستقرار والسلام في لبنان بالسلام في الشرق الأوسط (تويني، الخطاب، ١٢ تشرين الأول ١٩٧٨).

٢-  الاعتراضات الميدانية والتعاقدية على القرار ٤٢٥: المماطلات واتفاق القاهرة.

إن اجتياز مرحلة صدور القرار ٤٢٥ ووضع آلية تنفيذه بالقرار ٤٢٦ لا يعني بأن التطبيق كان معبّداً بالنوايا الحسنة، فلزم حماية القرارين مخافة الالتفاف على مضمونهما بمواقف متشدّدة داعية لانعقاد مجلس الأمن لإعادة النظر فيهما، فقوبلت برفض لبناني حازم لدعوة المجلس أو لعقد اجتماع المجموعة العربية لمناقشة موضوع لبنان بدون علم وموافقة سفيره (البرقية ٩٣ ومداخلة تويني في الاجتماع العربي تاريخ ٣٠ آذار ١٩٧٨).
ويبدو لي أن الوعي اللبناني لتلك المخاطر في نيويورك، مدعوماً بصلابة الموقف الرسمي في بيروت، تحاشى الكثير من الأفخاخ والعقبات لإفشال الانتشار، وأكتفي باثنين منها:

أ- الفجوة بين تعهّد كل من بيغن بالانسحاب من الأراضي اللبنانية المحتلة، وعرفات بإخلاء القواعد الفلسطينية من جهة، وبين الواقع الميداني من جهة أخرى، استناداً إلى معطيات الأمانة العامة للأمم المتحدة.

ب- الموقف الفلسطيني المتصلّب في نيويورك حفاظاً على المواقع في لبنان باعتباره أن "الوضع في الجنوب يظل في رعاية اتفاقيتيّ القاهرة وشتورا (و) أن هذا الأمر (حسب عرفات) يعني الفلسطينيين ولبنان والدول العربية ولا يعني سواهم" (البرقية الصادرة من نيويورك رقم ١٠٠ تاريخ ٤ نيسان ١٩٧٨ و١٥٩ تاريخ ٨ أيار ١٩٧٨).

وعلى النقيض، موقف لبنان يتلخّص برفض الأخذ باتفاقية القاهرة كعامل في تنفيذ انتشار اليونيفل، أو تحديد أماكن تمركزها مع الجيش، وبإصرار على "أن تكون سيطرة وسلطة الدولة في الجنوب شاملتين في النتيجة حيال كلّ الأطراف، ابتداء بإسرائيل وانتهاء بأي طرف آخر"، وعلى "منع أي وجود مسلّح لغير قوى السلطة الشرعية على أراضي لبنان بدون استثناء".

(برقيات وزارة الخارجية:

٨٨ تاريخ ١ نيسان ١٩٧٨

١٠٠ تاريخ ٤ نيسان ١٩٧٨

١٠٨ تاريخ ١٢ نيسان ١٩٧٨

٦٠/٧ تاريخ 27 نيسان ١٩٧٨)

وذهب بطرس إلى حدّ اعتبار اتفاقية القاهرة ساقطة وملغاة مع تبدّل الظروف.

ثالثاً – طبيعة قوة حفظ السلام.

تكوّنت قوات حفظ السلام في العالم  كنموذج للتعاطي الدولي مغاير لـ "الإجراءات والطرق" المنصوص عليها في الفصلين السادس والسابع من ميثاق الأمم المتحدة، إما لعدم ملاءمة الوسائل الملحوظة في الفصل السادس للأحداث أو النزاعات، أو لعدم التمكن من التوافق عليها تحت الفصل السابع. وعلى العموم، تكون مولجة بمهمة صون جهود السلام وترسيخه.

ولئن تطلّب إنشاء تلك القوات وإنهاء عملها اتباع آلية أمام مجلس الأمن، فإنه يمكن مع ذلك التحقّق من وجود قوة ما لحفظ السلام (وليس فرضه)، إذا كانت تستجيب لثلاثة مبادئ حدّدتها Katherine Cox في كتابها: Beyond self-defense: UN peace keeping operations  and the use of force، وهي: 

          ١-  موافقة جميع الدول المعنية والمرجع الأممي المختص عليها (عادة مجلس الأمن).

          ٢-  التزام حفظة السلام بسلوك الحياد وعدم الانحياز.

          ٣- عدم استخدام عناصرها القوّة (Force) إلاّ في حالة الدفاع عن النفس.

وفي هذا الصدد، يقول تويني بأن "اللجوء إلى القوة هو آخر مسلك يمكن أن تلجأ إليه لصيانة السلم، وآخر ما ترغب فيه... وأسلوبها يتمثّل بالتفاوض والإقناع".

استوفت اليونيفل تلك المعايير، وجسّدت بحد ذاتها النموذج الملائم، بحسب مجلس الأمن، لحالة لبنان عام ١٩٧٨ دون تفويض استعمال القوة بما يتعدّى الدفاع عن النفس كما حصل في عملية الأمم المتحدة في الكونغو عام ١٩٦١، تلافياً لتكرار تجربة الانغماس في الانقسامات الداخلية في بلد ما.

ونتيجة العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز ٢٠٠٦، توّسعت مهام اليونيفل في الفقرة العاملة 11 من القرار 1701 وصلاحيات "اتخاذ الإجراءات" العسكرية والدفاعية ضمن منطقة عملياتها، بناء على الفقرة 12 منه، دون أن يعني ذلك إذناً مطلقاً لاستخدام القوة، مما فتح باب الاجتهاد لتوصيفها في مكان ما بين الفصل السادس والفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

وفي صدارة آلية عمل اليونيفل بموجب القرار ١٧٠١ فقرة ١٢ والاتفاق الثنائي الخاص بمركز اليونيفل مع الدولة اللبنانية، وقرارات تمديد ولايتها تباعاً، تقع "حرية تنقل عناصرها في جميع عملياتها ووصول القوة إلى الخط الأزرق بكامل أجزائه وعدم إعاقتها".

وكانت هذه النقطة خلافية وسبب تنافر ومواجهات بين الجنوبيين واليونيفل، حسمها مجلس الأمن بقراره الرقم ٢٦٥٠، تاريخ ٣١ آب ٢٠٢٢، فقرة ١٦، بتأكيده "عدم حاجة اليونيفل إلى ترخيص أو إذن مسبق للاضطلاع بالمهام الموكولة إليها... بصورة مستقلّة". وقد أثارت هذه الفقرة الصريحة جدلاً واسعاً في لبنان. وبرأيي، كان يقتضي على وزارة الخارجية عدم الاستغراب بل التنبّه لأن فقرة الاستقلالية المذكورة لم تكن غريبة ولا مستجدّة ولا مفاجئة، إذ وردت صراحةً في التقارير الدورية الصادرة عن الأمين العام للأمم المتحدة عامَي ٢٠٢١ و٢٠٢٢، أي قبل اعتماد القرار ٢٦٥٠ المشار إليه والذي بدا مستغرباً حينئذٍ. ولو احتاط المعني بتلك التقارير، وقرأها بدقة لحسب وتحسّب!  وقد تطرّقت  إليها في مقالي في جريدة النهار تاريخ ٢٦ أيلول ٢٠٢٣. وفي كافة الأحوال، إن استقلالية العمل لا تحول دون التنسيق الوثيق والقائم بين القوة الدولية وبين الجيش اللبناني.

وعلى الرغم من الاحتكاكات مع اليونيفل واعتراضات دورياتها، مهما كانت مبرراتها أو دوافعها، أو الحوادث المحلية الموصوفة بـ "الهجمات"attacks  في القرار المذكور، تحاشت القوة الدولية استعمال القوة، وإن لحقت بها الإساءات والأضرار أحياناً، ملتزمةً  بمقاربتها الأساسية القائمة على الحوار والاستيعاب والتفاهم والتفهّم.

كما شَكَتْ اليونيفل من الاعتداءات الإسرائيلية المتعمّدة على مواقعها وعناصرها. وفيما لو نجحت احتجاجاتها لما تكرّرت التعديّات والاعتداءات عليها حتى تاريخه.

وحيث إن العدّ العكسي لإنهاء وكالتها (وليس انتهاؤها) قد بدأ، فسوف تكون اليونيفل مادة دسمة للدرس والتمحيص واستخلاص العبر. وَرَدَ بعضه في مقدّمة كتاب Peace-Keeping للسفير والوزير تويني، منها قوله: "كان يقتضي على اليونيفل أن تعمل كقوة موحّدة ومندمجة لمجلس أمن غير مندمج  وغير موحَّد"، وأضيف شخصياً... في بلد منقسم قلّما تمكّن من الحفاظ على وحدته واندماج أبنائه.


                                                                                           (يتبع في الجزء الثاني)

     

الأكثر قراءة

سياسة 11/6/2025 10:23:00 AM
"حزب الله": بصفتنا مكوّناً مؤسِّساً للبنان الذي التزمناه وطناً نهائياً لجميع أبنائه، نؤكد حقنا ‏المشروع في مقاومة الاحتلال والعدوان
اقتصاد وأعمال 11/6/2025 6:37:00 AM
تماسك الدولار عند أقل بقليل من أعلى مستوى في أربعة أشهر الذي وصل إليه في الجلسة السابقة، وسط تزايد الإقبال على الأصول الأعلى في المخاطر
سياسة 11/7/2025 4:02:00 PM
بعد أن كتبت "بعلبك إيمتى؟" على تغريدة لأفيخاي... هذا ما جرى معها 
مجتمع 11/7/2025 1:01:00 PM
تصاعد الجدل ليبلغ الجمعية، حيث أكد رئيسها الدكتور رامي اللقيس لـ" لنهار " أنه تم فصل الموظفة سارة الشياح من عملها...