مؤسسة عبد الحميد شومان: منارة عربية في بناء المعرفة والثقافة الرقمية
غسان مراد
في بعض الأحيان، على الرغم من شهرة بعض المؤسسات بدورها وبما تقوم به على المستوى الثقافي والاجتماعي، يبقى من الضروري تسليط الضوء باستمرار على إسهاماتها. وينطبق هذا الأمر على مؤسسة عبد الحميد شومان في الأردن، ذراع البنك العربي.
تُعدّ المؤسسة، منذ تأسيسها عام 1978 كمبادرة من البنك العربي، نموذجًا فريدًا في المسؤولية الثقافية والاجتماعية للمؤسسات المالية. لا يقتصر دورها على دعم الثقافة بمعناها الشامل فحسب، بل هي ذراع استراتيجي للبنك العربي يهدف إلى الاستثمار في المعرفة من أجل مجتمع واعٍ وتعزيز حضور الثقافة في الحياة اليومية. هذا الدعم يضمن للمؤسسة الاستمرارية والاستقرار المادي، ويُمكّنها من تنفيذ برامج ثقافية ومعرفية على مستوى العالم العربي بأكمله، وليس الأردن فقط، لتكون فاعلاً أساسياً في المشهد الثقافي العربي. ويتجسد هذا الاستثمار في جذور بناء الإنسان وتكريس الثقافة كقيمة محورية في التنمية.
في عصر الرقمنة والذكاء الاصطناعي المتصاعد، الذي يؤثر بشكل متزايد على الاستهلاك السريع للمحتوى، وغالباً السطحي منه، نلحظ تراجعاً في المشهد الثقافي بشكل عام. ينمو التفاعل الآني السريع على حساب النقد المعمق، الذي يستند إلى قراءة حقيقية تسهم في حوار بناء. وفي هذا السياق المعرفي المتراجع و"الحزين"، لا يتبقى أمامنا سوى البحث عن سبل لتعزيز دور الثقافة، باعتبارها ضرورة وجودية للحفاظ على الهوية وشرطاً لمواجهة التفكك الاجتماعي والانغلاق المعرفي والمعلوماتي. بالتالي، فإن المجتمعات التي تدمج الثقافة في حياتها وتُعلي من شأن المعرفة كقيمة جوهرية لوجود الإنسان، هي القادرة على إنتاج المعنى وتجديد ذاتها في مواجهة الهشاشة والتهميش بشتى صوره. ولهذا، تكتسب الفعاليات الثقافية المتاحة للجميع أهمية مضاعفة، فهي تعيد ربط الإنسان بالثقافة عبر المؤسسات الداعمة، والتي بدورها تمنح الفرد القدرة المعرفية اللازمة للحفاظ على نبض المجتمع.
في هذا السياق، تبرز مؤسسة عبد الحميد شومان كنموذج عربي يستحق الدراسة والعرض لما تقدمه، ليس للمجاملة، بل للتحليل والتوثيق من واقع الملاحظة. فقد شهدتُ خلال الأيام الماضية، أثناء فعالية توزيع جوائز الباحثين العرب لعام 2025، كيف تحولت الندوة الثقافية المعرفية، التي أقيمت في المنتدى الثقافي للمؤسسة يوم الإثنين، إلى مشهد ثقافي متكامل، يتجسد في الحضور الكثيف للباحثين والطلاب والمثقفين المتفاعلين مع الموضوع. كما لاحظت مستوى عالٍ من التنظيم الدقيق، يغلب عليه طابع الجمع بين الروح العلمية والإنسانية في المكان المخصص لذلك. هذا المنتدى يستقطب جمهورًا متنوعًا ويفتح المجال للنقاش الحر حول القضايا الفكرية والعلمية، مؤكدًا أنه عندما تتاح الفرص، يختار الناس الحوار الثقافي ويقبلون عليه.
من جهة أخرى، خلال الأيام التي سبقت وتلت توزيع الجوائز، لم يقتصر الاهتمام على الحفاوة والاستقبال، بل كان مُسلّطًا أيضًا على المعرفة والبحث العلمي بوصفه فعلًا جماعيًا يُعيد الاعتبار للعلم، وذلك من خلال ندوات أُقيمت على المستويات كافة. وما لفتني أيضًا هو الحضور اليومي الكثيف في مكتبة المؤسسة العامة، حيث يتوافد مئات القرّاء والباحثين والطلاب، وهو مشهد بات شبه نادر في المكتبات العامة؛ فالمكتبة، كما يتضح، ليست مجرد مستودع للكتب، بل فضاء للتفاعل الثقافي والقراءة والتعلم، وهذا يبيّن نجاح المؤسسة في جعل الثقافة حاضرة في الحياة اليومية.
أما على صعيد فريق العمل في المؤسسة، فيبرز بوضوح هذا التجانس الذي يمثل أساسًا لنجاح عملها. إنه فريق يتمتع باحترافية عالية في التنظيم والتواصل والعمل الجماعي، وهو الفريق الذي يُنظم، ويُنفذ، ويُشارك، ويُطور كافة أنواع البرامج.
لا يقتصر دور المؤسسة على تقديم الخدمات للكبار والطلاب فحسب، بل يمتد ليشمل الأطفال واليافعين عبر إتاحة مساحة واسعة وبارزة لهم من خلال مكتبة "درب المعرفة" ومختبر المبتكرين الصغار. فالبرامج التربوية التي تنظمها تساهم في التنمية الفكرية وتحفيز التفكير النقدي، حيث تعلم الأطفال طرح الأسئلة والتجريب، وهو ما يمثل الأسلوب الأمثل للاستثمار في الأجيال الجديدة وتهيئة مجتمع المعرفة والذكاء الاصطناعي.
وفي سياق التحول الرقمي، أطلقت المؤسسة منصة "أزرق" بهدف إثراء المحتوى الرقمي العربي بمواضيع تعالج مجالات متنوعة، تشمل العلوم والفنون والأدب والشعر والموسيقى. كما تنتج المنصة محتوى مرئيًا ومسموعًا بمعايير مهنية على كافة الأصعدة. هذه المنصة لا تشكل وسيلة لنشر المحتوى فحسب، بل هي مشروع ثقافي يساهم في ردم الفجوة المعرفية، وستكون فضاءً معرفيًا باللغة العربية. فاللغة العربية، التي كانت ولا تزال بخير، ليست مقتصرة على الأدب والشعر والفن، بل هي لغة العلوم والمعرفة، وبإمكانها التعبير عن كل التغيرات التي تحدث في هذا العالم؛ إذ تحوي في جوهرها كل الظواهر اللسانية التي تمكنها من استيعاب المعرفة مهما كانت طبيعتها.
تستهدف منصة "أزرق" جميع الأجيال، وتقدم محتوى جديدًا بأساليب متنوعة ومناسبة لكل جيل، مما يربطهم بثقافتهم. ويُعد البودكاست استراتيجية تستثمرها المؤسسة لنشر المعرفة وخدمة الثقافة، من خلال تقديم محتوى متنوع يشمل المجالات العلمية والأدبية والفنية والتربوية. يتميز هذا المحتوى بأسلوبه السهل والمتاح الذي يُيسّر عملية التعلّم ويساعد على اكتساب المعرفة بطرق تتوافق مع الرقمنة. يمثل هذا التحول إلى البودكاست خطوة استراتيجية لتوسيع الأفق الثقافي عبر مخاطبة الجمهور بالطرق التي يستهلكون بها المعرفة حاليًا عبر الوسائط الرقمية.
على الرغم من تراجع العلوم الإنسانية وتحول الثقافة في بعض الأحيان إلى مجرد مناسبات للتمظهر الرقمي ولالتقاط الصور، يبقى العمل الثقافي ممكناً عندما تُتاح له مساحة، ولا يزال الاستثمار في الإنسان وتمكينه معرفياً خياراً ممكناً لبناء مستقبل عربي قائم على المعرفة. وأنه من الضروري تكرار هذا النموذج وتوسيع تأثيره، خاصة في بلد كالبنان الذي هو بأمس الحاجة لمثل هذه المبادرات التي تعيد الاعتبار للثقافة، وكذلك في البلدان الأخرى التي تسعى إلى نهضة ثقافية وتربوية. وختاماً، ما تقدمه مؤسسة عبد الحميد شومان ليس نشاطاً عابراً، بل هو مشروع ثقافي معرفي متكامل يهدف إلى ربط الإنسان العربي بلغته والمعرفة المرتبطة بها، مؤكدة أن العمل الثقافي هو مسار مستمر نحو مستقبل أفضل.
أخيرًا، ما تقدمه مؤسسة عبد الحميد شومان ليس نشاطًا عابرًا، بل مشروع ثقافي معرفي متكامل لربط الإنسان العربي بلغته العربية وبالمعرفة فيها وبها، وأن العمل الثقافي مسار مستمر لمصير مستقبلي أفضل.
نبض