إسكندر حبش... شاعر الحبر الصامت ورفيق المدن البعيدة

آراء 31-10-2025 | 20:00

إسكندر حبش... شاعر الحبر الصامت ورفيق المدن البعيدة

لم يكن حبش شاعرًا تقليدياً ولا تابعاً لموجةٍ بعينها، بل صاحب تجربة متفردة في الرؤية واللغة.
إسكندر حبش... شاعر الحبر الصامت ورفيق المدن البعيدة
إسكندر حبش.
Smaller Bigger
د. فاروق غانم خداج
كاتب لبناني وباحث في الأدب والفكر الإنساني 


لم يكن رحيل الشاعر والمترجم اللبناني إسكندر حبش مساء الخميس في بيروت حدثًا عابرًا في الوسط الثقافي، بل فاجعة خيمت على المشهد الأدبي العربي كله. فقد غاب الرجل الذي ملأ الصفحات شعرًا وتأملاً وترجمة وصمتًا، تاركًا وراءه أثرًا لا يُمحى من الحبر والكلمات. عاش بهدوء ورحل بهدوء، كأن الصمت الذي لازمه في الحياة أراد أن يكون خاتمته أيضًا. شاعر وصحافي ومثقف عضوي جمع بين رهافة الشعر وعمق الفكر، وبين عزلةٍ اختارها وضجيجٍ كتب عنه دون أن ينخرط فيه.

وُلد إسكندر حبش في بيروت سنة 1963، وتخرج في الجامعة اللبنانية، وبدأ مسيرته الأدبية في ثمانينيات القرن الماضي مع جيلٍ تَشكّل في ظلّ الحرب والقلق والبحث عن المعنى. ارتبط اسمه بجريدة السفير التي عمل فيها محررًا ثقافيًا لعقود، حيث أسّس زاوية فكرية وشعرية تُعدّ من الأكثر قراءة لما حملته من صدق وجداني وعمق تأملي. هناك صاغ صوته الخاص بين الشعر والترجمة والمقالة النقدية، فكان أحد المخلصين للفكر الحر وللغة التي تُضيء في العتمة.

لم يكن حبش شاعرًا تقليديًا ولا تابعًا لموجةٍ بعينها، بل صاحب تجربة متفردة في الرؤية واللغة. فمنذ ديوانه الأول "تلك المدن" عام 1997، مرورًا بـ "ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة" عام 2002، و"لا أمل لي بهذا الصمت"عام 2009، وصولاً إلى "الحبّ يخطئ دائمًا" عام 2012، تتجلّى في نصوصه حساسية الإنسان الموجوع بأسئلته، الساخر من عبث الواقع، المؤمن بأن الشعر هو آخر ملاذٍ للروح قبل السقوط. كتب بوعيٍ فلسفيّ عن الحبّ والزمن والغياب، وجعل من القصيدة مساحةً لمقاومة العدم.

قال في إحدى قصائده:
كلما كتبت خفت أن أكمل القصيدة
كأن النهاية موت صغير
وكأن البياض الذي بعدها مقبرة أخرى

بهذا الوعي المرهف، جعل من الشعر فعلَ بوحٍ ومكاشفةٍ لا تزييف فيها، ورأى فيه عزاءً للإنسان وسط زمنٍ فقد إيقاعه.

وعُرف إسكندر حبش أيضًا مترجمًا رفيع الذوق نقل إلى العربية أعمالاً لكبار الأدباء العالميين مثل تشارلز بوكوفسكي، بول أوستر، جون برجر، أورهان باموق. لم تكن ترجماته حِرفة لغوية، بل مغامرة فكرية وإنسانية؛ كان يختار ما يُشبهه من النصوص، وما يجد فيه صدىً لأسئلته الداخلية، فينقلها إلى العربية بروح المبدع لا الناسخ. وقد كتب مرة في السفير أن "الترجمة عبور للروح من ضفة إلى أخرى"، وهي عبارة تلخص نظرته إلى الكلمة باعتبارها جسراً بين العوالم.

آثر حبش البقاء بعيدًا عن الأضواء، يكتب عن المدن والوجوه التي تمرّ وتترك أثرًا. كانت بيروت في قلب نصّه: مدينة الجمال والتعب، الحبّ والخذلان، وطنه الصغير الذي رأى فيه صورة العالم كلّه. كتب عنها وعن باريس ومدنٍ أخرى عاشها مسافرًا دائمًا، يبحث عن بيتٍ في اللغة أكثر من الأرض. قال في إحدى مقالاته الأخيرة إنّ "كلّ مدينة تشبه سطرًا ناقصًا في قصيدة طويلة لا تنتهي"، وكأنه يصف رحلته المستمرة في الكتابة والاغتراب.

برحيله يُطوى فصلٌ من فصول الأدب اللبناني الحديث. غير أنّ أثره باقٍ في الذاكرة الثقافية، لأنّ حضوره لم يكن في العدد بل في النوع، ولم يكن في الضجيج بل في العمق. ترك لنا إرثًا من الشعر والترجمة والمقالات التأملية التي تعيد تعريف معنى الكتابة في زمنٍ سريع الزوال. لقد كان من أولئك الذين يكتبون بصدقٍ يجعل حضورهم يتجاوز الغياب.

قال في ديوانه "لا أمل لي بهذا الصمت" عام 2009:
وهذه الليلة الطويلة مع كلماتي
أقطعها وحدي
كمركبٍ لا شاطئ له
يواصل الإبحار خائفًا من الوصول

تبدو هذه الأبيات اليوم نبوءةً رثائية، وكأنّ المركب الذي خاف الوصول قد بلغ أخيرًا مرفأ الصمت الأبدي، تاركًا للبحر أن يروي حكايته.

وهكذا يُختم تشرين الأول 2025 بحبرٍ من الحزن، إذ ودّع لبنان في أسبوعين فقط ثلاثة من رموزه الثقافية: الشاعر الزجلي طليع حمدان، واللغوي والإعلامي بسام براك، وها هو اليوم يودّع إسكندر حبش، فيكون الختام ممهورًا بفقد الكبار الذين صاغوا وجدان اللغة اللبنانية والعربية، وأثبتوا أن الكلمة الصادقة لا تموت، بل تتحول إلى ضوءٍ يقود الراحلين من بعدهم.

رحم الله الذين كتبوا كي يظلوا أحياءً.

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 10/31/2025 2:00:00 PM
أشقاء الشرع.. مسؤولان بارزان في الحكومة وثالث "معاقَب"
شمال إفريقيا 10/31/2025 9:38:00 PM
 مجلس الأمن يصوت على مشروع قرار ينص على أن تتمتع الصحراء الغربية بحكم ذاتي تحت سيادة المغرب
ثقافة 10/30/2025 10:50:00 PM
بعد صراع طويل مع المرض...
كتاب النهار 10/31/2025 4:15:00 AM
لكن الحزب تحول مذاك إلى جيش نظامي. انتقل من العمل العسكري السري إلى العمل العسكري العلني.