البحث عن اليقين على هدي الألم!!
جورج كلاس*
بعدما نجح أنطوان مظلوم، القلم الذهب، بالخروج إلى النور من عمق الحزن المخزون في أعماقه من قرابة نصف قرن من فراق الأخ وفقد السند والروح، استراح من همِّ الصمت والانغلاق، وتجرّأ على الدخول إلى كرسيّ الاعتراف، لا ليقرَّ بذنوبه بل ليواجه الله بأسئلة سوداء تنفتح على تساؤلات بيضاء، ثم لا تلبث أن تتظهَّرَ صفاءاتٍ نورانيةً مشفوعةً بأدعية بخورية: أن يمنح الرب أخاه رحمته ويريحه هو من أثقال الإرهاصات التي شغلته وجداً وعمّقته إيماناً، ليكتشف أن عتب المؤمن هو من أشكال الصلاة، ويصل إلى قناعة مؤلمة هي أن انكسارة خاطر الأهل، تبقى سؤال الأسئلة الذي لا جواب عنه، مهما كثُرَت الإجابات وتعددت التفسيرات.
على مدى محطات عشر من جلجثة البحث عن اليقين، تدرَّج أنطوان مظلوم برسم مشهديات المأساة الفاجعة التي سكنته، ووضع لها سيناريوهات خاصة مدعمة بمؤثراتٍ داخلية تختلج حزناً وتلتحف ثلاثية المحبّة والغفران والمسامحة، لتؤكد إيمانية الإنسان المتوجِّع والغافر والناظر إلى الله بعين الرحمة، والترؤف بكل قلبٍ انفطر وخاطرٍ انكسر، مستحضراً أيقونة والديه الدامعين والمتكئين على مشفعة الرحمة، والمبتهلين على مركعة الخشب، مُبلِّليْنِ السجدة بالدمع ومنيرَيْنِ عتمةَ العتب بنور الشمع.
فمن مرتبة الضوء وزلزالية العواصف، وصولاً إلى وضعية الصمت وحديث الذات، تدرّج المؤلف بوجدياته من عتبة الموت ولماذية صمت الله، مروراً بعذابات الوَجع والهجرة، وانبعاث الحزن من الرماد وحلولية الله في القلب، مع حوارات هادئة مبنيّة على تمرّد أبيض، مؤكداً أن الحُب أقوى من الموت، وأن يد الله لا تتوقف عن الرعاية وتحويل الضعف إلى قوة.
أعلى مراتب الإيمان وأشَقُّها وجداً، وأشفُّها صَفْناً، هي التطوُّعُ للبحث عن اليقين، والتهيّؤ للدخول إلى رهبة كرسيّ الاعتراف، للبوح بما يُسْمَع وإفراغِ حمولة الهمّ وانشغالات التساؤل عن ما بعد الهنا والآن، سعياً للاطمئنان والاستراحة في واحة الهناء، تخلُّصاً من إرهاصات ما قبل عذابات الشك، وتفاعلاً مع اليقينية، المفضية إلى الإيمان. إذاك تلتقي العقلية بالذاتية لتجرؤ على البحث في عمقيّاتِ وجد المؤمن الحقّ المتسالم مع نفسه والدنيا والمتسامي إلى التأكيدية، انخطافاً حلولياً في طبقات النور، مُتجرِّئاً على اعتماد الشكّ سُموّاً إلى تمكينات اليقين وانتهاج مسالكَ تُقذَفُ فيها الأنوار في الصدر.
أنطوان مظلوم، كتبه الشكّ فتخلص منه وتغلب عليه بأن كدَّ بالبحث عن اليقين على هدي إيمانه، وجدَّ بتقديم معاناته شهادةً تُقرأ وتفهم وتعاش، ويُنصَتُ إليها في سكون القلب.
هو ينتقل برحلة العقل والقلب من مرحلة "الشكّية الإيمانية" الباحثة عن اليقين، إلى "التأكيدية الإيمانية" الموصلة إلى اليقين الإيماني، ارتكازاً على قاعدة أن "الشك الإيماني" ينطلق من انشغالٍ وجداني ومكاشفة عقلانية مع الذات، فيما "الشك بالإيمان" هو نوعٌ من انتهاج مسلك خاصّ يتوافق ونفسية وموضع كل شخص وموقعه من الحياة وما بعدها...
المزامير الإيمانية التي كتبتْ أنطوان مظلوم دهشاتٍ تساؤلية ولوْماتِ شابٍّ جرحه القدر، كتبها هو سيرةً مشهدية وشهادةً إيمانية يحكي فيها كيف ابتدأ من الشك واستغراب الفاجعة انتهاءً إلى اكتشاف أن الله رحمة، وأن المحبّة هي رابعة النذور الرهبانيّة التي يحملها كل مؤمنٍ في عمقياتِ قلبه. هي احتفالية المزامير الدامعة، حيث كل لوحة هي قصيدة وأكثر، وشهادة مقدَّرة على شجاعة تحويل الألم إلى إيمانيات أدبية، انطلقت من ضفة الحزن الأسود لتصل بأمان إلى شاطئ النور الذي ترتاح له النفس ويهدأ معه البال، بعدما ختم بحثه عن اليقين وأقفل الباب على كل الأسئلة المفتوحة على عبثيات الحياة، وألقى خطابه الوجداني من مذبح الرجاء، حيث تحوّل الحزن إلى فلسفة وجود نُسكي، مُقعَّدة على زهدياتٍ ابتهالية، نذر المؤلف المجروح وجداً، بأن ينمّطها فلسفة وجود صوفي ويتبعها بفروض صلاة يتقوّى بها في مهمّة البحث عن الراحة اليقينية، بعدما واجه الله بأسئلة عتابية متسلحاً بشفاعة المحبّة، ليصوغ من تلك الأسئلة استجاباتٍ سماوية عمَّقتْ إيمانه وقرَّبته من ارتداء ثوب الابتداء في نذوريات إسكيم الرجاء الدائم، على رتبة خادم هيكل المحبّة الكثير المنارات الأيقونيّة.
أسلوبيته التعبيرية مكتوبة بأسلوب سرد إنجيلي، حيث يقدم حزنه آياتٍ ويُلحِقها بأمثال شاهدة على إيمانيته، إمعاناً بالتفسير والانتصار على الريبة التي عاشها، وهي فنيَّةٌ اعترافية مباركة بمشحة ميرونية جعلت من هذا الكتاب شحيمةَ صلاةٍ وسبحة دعاءاتٍ، تُتلى فيها أسرار الفرح والنور والحزن والمَجْد، رجاءً قلبياً وسلوكاً إنسانياً ومسلكاً روحانياً زاخراً بالقيم...
وتكتمل شعورية النص ووجدانيته الفلسفية الوجودية، بالفنية الإخراجية للغلاف حيث شعاعيةُ الضوء تقتل عتمة الشك وتبشّر بالوصول إلى مراتب النور العليا. وكأن اللوحات السود المرافقة لمراحل الكتاب، جاءت لتكمل سحريات المشهد وتزيده رهبة وخشوعاً وصفاءاتِ تعبير عميقة الإيحاء، غزيرة الدلالات.
* أنطوان مظلوم، "البحث عن اليقين". قدّم له المطران سمير مظلوم، بيروت 2025. الغلاف لنيكولا مظلوم.
نبض