الإعلام في الحرب السيبرانيّة ... من الافتراضيّة المستحيلة إلى الواقعيّة الممكنة
مع دخول الهجمات السيبرانية لاعباً أساسياً في الحرب الجديدة، يُطرح سؤال محوري حول مدى جهوزيّة الإعلام التقليدي والجديد لمواكبة ثورة التكنولوجيا وتداعياتها على النزاعات المسلّحة وكيفية حسمها للنتائج، ومدى استعداده للتعامل مع هذه الأنماط من الحروب للحدّ من أضرارها وقدرته على التحكّم بالمعلومات والأخبار التي غالباً ما يكون الإعلامي أو الوسيلة ضحيّتها الأولى، خصوصاً في ظلّ غياب القوانين الدوليّة التي تضبط وتقونن هذا النوع من الإعلام الجديد وأصول استخدامه في الحروب الواقعية والافتراضية.
يشتقّ مصطلح السيبرانية من الكلمة اليونانيّة "Kybernetes" ومعناها القيادة والتحكّم عن بُعد، وتُستخدم الهجمات الإلكترونيّة عبر شبكة الإنترنت لتكون سلاحاً فعالًا وحاسماً وسريعاً يخدم أهدافاً عسكريّة وسياسيّة محدّدة أثناء النزاعات وفي زمن الأزمات المسلّحة، حيث تهدف الحرب السيبرانيّة إلى غزو الفضاء الرقمي وتعطيل البيانات وإتلاف المعلومات، لتفرض نتائج وتترك تداعيات عديدة لعلَّ أبرزها أنها ثورة تنتقل بالحرب العسكريّة من الحرب الكلاسيكيّة إلى الواقع الرقمي بما يعزز القدرات التنافسية بين المتحاربين ميدانياً واستراتيجياً، وكذلك الاعتماد على السبقية العلمية والتكنولوجية وكيفيّة استخدام المعلومات في حرب البيانات من خلال المفاجأة أي اعتماد الوقت الصاعق والسريع كعنصر أساسي للمباغتة وتحقيق الانتصار الساحق، فضلاً عن استخدام تقنية التضليل من خلال استهداف المواقع الإلكترونيّة ومراكز المعلومات الرقميّة و"خزائن الوثائق" الأرشيفية المفهرسة والمجهّزة للاستخدام والقتال الإلكتروني. كذلك التأكيد على وضع استراتيجيّة "تحرّك معلوماتي" سريع ومفاجئ، تفوق من حيث العتاد والجهوزيّة والتدريب، استراتيجيّة "العمل الميداني التقليدي" وتسجِّل عليه انتصارات فعلية تشلُّ حركيته وتعطل أجندة أهدافه، ما يجعل من الحرب السيبرانية نوعاً من الحرب الصامتة ويصنّفها في مرتبة الحرب البديلة التي تجعل البشرية أمام تحوّلات جذريّة في مفهوم الحروب ونتائجها وميدانياتها وكلفتها الماديّة والبشريّة ويهدّد مستقبل الحياة ومدى التطور الحضاري فيها. إن ميزانيات الحروب السيبرانيّة تعتمد في أساسياتها على تقنيات وفنون بناء العقول والتدرُّب على التحوّل من كلاسيكية (تخزين السلاح) إلى تطوريّة (تخزين المعلومات) في مراكز البحوث الدائمة التجهيز والتحديث، لأن المهمّة الأولى في هذا النوع من الحروب هي الحرص على تحصين المعلومات وعدم خرقها من قبل نموذجين من الأعداء: العدو التقليدي المعروف، والعدو المفترض أو المحتمل، حتى لو كان صديقاً بالسياسة وشريكاً بالتحالف. وهنا يجب العمل لبناء ترسانة أسلحة معلوماتيّة لا يعرف سرَّ تركيبها أحد، أياً يكن هذا الأحد، لأنّ الفوز في الحروب الجديدة هو لمن سبق وبادر وباغت وكان أكثر جهوزية على مستوى التطبيقات الإلكترونية والترسانة السيبرانية.
هذه التحوّلات ستضعنا أمام مشهديات سريعة التبدّل ميدانياً على صعيد التحالفات التقليديّة بين الدول الكبرى، لصالح قيام تحالفات جديدة أو "كيانات فرديّة" لها خططها ومصالحها الفرديّة والقوميّة بدل مصالح الفرقاء المتحالفين ظرفياً.
إنّ التطوّرات الحاصلة والمتسارعة النمو اللحظوي في مجال الإعلام والاتصال الرقمي، من خلال التقدّم في بناء "أجيال الاتصال" الجديدة، ونحن اليوم في الجيل الخامس، تبشّرنا بأنّنا سنكون أمام متغيرات وتبدلات متسارعة في مجال بناء "أجيال إعلاميّة" تواكب المجالات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والعسكريّة وتجعل من الحروب الميدانية على الأرض ساحات منازلات عسكرية تقليدية، غير ذات قيمة مقارنة مع الحروب الفضائية والسيبرانية التي وحدها تحدد من هو المنتصر وتشكل أداة الحسم المبكر للمعارك والحروب.
إنّ الحروب السيبرانيّة التي تستلزم ترسانات أسلحة متقدّمة، وتتطلّب عمليّة تأهيل جيوش تتوافق مع تحدّيات المرحلة تستوجب من الإعلام الإسراع بإعداد "إعلاميّين سيبرانيين متخصّصين" بتغطية فنون الحروب الافتراضيّة والإلكترونيّة ويكونون قادرين على مواكبة التطوّرات الممكنة الحدوث، كما لا بدّ للإعلام من التطرّق إلى قضايا حفظ الأمن السيبراني والمعلوماتي والتوعية على مخاطره والتعريف بخصوصياته والعمل لإنتاج "إعلام حربي نوعي ومختلف" من خلال اعتماد مقررات أكاديمية، تعرِّفُ بمفهوم وخصائص وتقنيات الإعلام السيبراني، إلى تنظيم دورات تدريبية متخصصة وإقامة حلقات نقاش بين مهنيين ومتخصصين، وصولاً إلى تأسيس قواعد بيانات معلوماتية، تكون في أساس تشكيل الشخصية التقنية والاستشارية للإعلاميين السيبرانيين كمتخصصين في هذا النوع الجديد من الإعلام الحربي، في مجالاته العسكرية والاقتصادية والمجتمعية المختلفة والشديدة التنوّع.
إن منطق الحروب الإلكترونية ومواكبته لتطور التنافس الصناعي في مجال الأسلحة يفرض على الواقع الخبري أسلوباً جديداً من فنون الحرب، هو الواقع السيبراني الذي ستكون له الكلمة الحازمة والحاسمة في تحديد أسباب وظروف ومراحل ونتائج كل حرب.
أستاذة جامعية*
نبض