الإعلامي بسام برّاك.
د. فاروق غانم خدّاج
كاتب لبناني وباحث في الأدب والفكر الإنساني
رحلَ بسام براك اليومَ، ورحيلُه ليس كغيرِه من رحيلِ الإعلاميين الذين تنطوي صفحاتُهم مع الأخبارِ اليوميّة. إنّه رحيلُ لغةٍ ناطقةٍ، وأداءٍ متقنٍ، وموقفٍ أخلاقيٍّ من الكلمة؛ صوتٌ عاشَ من أجلِ الحرفِ العربيّ، وماتَ وهو يحملُ في قلبِه همَّ صيانتهِ من الترهّلِ والابتذالِ.
عرفتُ بسامًا في ميادينِ اللغةِ والإلقاءِ، في مسابقاتِ الإملاءِ التي جمعَتنا، وفي لجانِ التصحيحِ التي كنّا فيها نحرسُ اللغةَ من خطأٍ عابرٍ أو تنوينٍ ضائعٍ. كان دقيقًا في نُطقهِ، صارمًا في حكمهِ، عطوفًا على من يريدُ أن يتعلّمَ، متواضعًا رغمَ علوِّ مكانتهِ. في كلّ لقاءٍ معه كنتُ أرى في عينيه محبّةً عميقةً للعربية، تلك التي آمنَ بأنّها ليست مجرّد وسيلةِ تعبيرٍ، بل هويّةٌ وانتماءٌ وحياةٌ.
وُلدَ براك في لبنانَ، وتخرّجَ في الإعلامِ قبلَ أن يشقَّ طريقَه إلى الميكروفونِ والشاشةِ، حيثُ برزت شخصيّتهُ المهنيّةُ الواثقةُ. بدأ مسيرتَه في إذاعةِ «صوت لبنان»، ثمّ انتقلَ إلى شاشةِ «المؤسّسة اللبنانيّة للإرسال»، مقدّمًا نشراتِ الأخبارِ ومشاركًا في البرامجِ السياسيّةِ والثقافيّةِ. لم يكن مذيعًا بالمعنى التقليديّ، بل معلّمًا خلفَ الميكروفونِ، يعلّمُ من خلالِ صوتِه ونُطقهِ كيف تكونُ اللغةُ أداةَ جمالٍ لا مجرّدَ ناقلٍ للخبر.
أصابَ المرضُ صوتَهُ ذاتَ يومٍ، في منطقةِ الدماغِ التي تسيطرُ على الكلامِ، وكأنّ القدرَ اختارَ أصعبَ امتحانٍ لمن عاشَ بالكلمةِ. خضعَ لعمليّاتٍ دقيقةٍ، وصارعَ الوجعَ بشجاعةٍ نادرةٍ، لكنّه ظلّ وفيًّا للحرفِ، معلّمًا في الجامعةِ الأنطونيّة، ومدرّبًا للأجيالِ على فنّ الإلقاءِ والنطقِ والإعلامِ. لم يتراجعْ يومًا عن أداءِ رسالتهِ، بل كانَ يواجهُ المرضَ بابتسامةِ مَن يعرفُ أنّ اللغةَ أقوى من الألمِ.
في دروسِه وندواتِه، كانَ بسام براك يربّي طلابَه على احترامِ الحرفِ، لا على التكلّفِ أو التصنّعِ. وكانَ يقولُ إنّ الإعلاميَّ لا يُقاسُ بصوتهِ فقط، بل بدقّةِ كلمتهِ، وبقدرتهِ على حملِ اللغةِ بكرامةٍ. لذلكَ أحبّهُ طلابُه وزملاؤُه، وأحبّوهُ أكثرَ حينَ اكتشفوا أنّ وراءَ المذيعِ الأنيقِ قلبًا أبويًّا يفرحُ لكلِّ تقدّمٍ لغويٍّ، ويغتبطُ حينَ يسمعُ جملةً صحيحةَ النطقِ والوقفِ.
لقد عاشَ براك من أجلِ الفصحى، تلك التي كانت تقاومُ الانحدارَ في زمنِ العجلةِ الرقميّةِ، فحملَها بلسانهِ وحافظَ على بهائها في الإعلامِ. كان يعرفُ أنّ اللغةَ لا تُصانُ بقرارٍ رسميٍّ، بل بعشقٍ شخصيٍّ لها، وبالغيرةِ عليها من الخطأِ. لذا أسّسَ أو شاركَ في مسابقاتٍ لغويّةٍ وتدريباتٍ إملائيّةٍ، وكان يؤمنُ أنّ التباريَ في الإملاءِ ليسَ ترفًا مدرسيًّا، بل تمرينًا على الانضباطِ والدقّةِ والاحترامِ.
كنتُ أراهُ في لجانِ التصحيحِ يتفحّصُ الورقةَ كما يتفحّصُ الجرّاحُ نبضَ مريضِه، لا يقبلُ التساهلَ في همزةٍ أو شدّةٍ، لأنّه كان يعتبرُ كلَّ خطأٍ خيانةً صغيرةً للّغةِ التي أحبّها. ومعَ ذلكَ، كان يصحّحُ بعينِ المربّي لا القاضي، فيشرحُ الخطأَ بلطفٍ، ويقترحُ البديلَ بصدقٍ، فيخرجُ المتعلّمُ من بينِ يديه مشبَعًا بروحِ العربيّةِ لا خائفًا منها.
اليومَ، ونحنُ نودّعُه، لا نحزنُ على شخصٍ فحسب، بل على مرحلةٍ من الصفاءِ اللغويّ كانت تطلّ من خلالِه. لقد خسرَ الإعلامُ اللبنانيُّ معلّمًا نادرًا في زمنٍ تتراجعُ فيه اللغةُ أمامَ زحفِ اللهجاتِ والمصطلحاتِ الأجنبيّةِ، وخسرَ طلابُ الإعلامِ أبًا لغويًّا علّمهم أنَّ احترامَ الكلمةِ أصلُ كلِّ مهنةٍ.
كتبَ أحدُ مريديه متسائلاً بمرارةِ الفقدِ: بمَن سنستعينُ حينَ تعجزُنا اللغةُ؟ يا سيّدَ التنوينِ والقواعدِ. وهي عبارةٌ تختصرُ ما يمثّلهُ للرأيِ العامّ الأكاديميّ والإعلاميّ معًا: صوتُ ضميرٍ لغويٍّ ظلّ يقاومُ تساهلَ الكلماتِ في نشراتِ الأخبارِ، ويرى في الفصحى مسألةَ كرامةٍ لا مظهرًا شكليًّا.
إنّ فقدانَ بسام براك يعني فقدانَ نموذجٍ جميلٍ للّغةِ حين تلبسُ صوتًا بشريًّا وتصبحُ حضورًا. كان يجيدُ الجمعَ بينَ الجملةِ الصحيحةِ والموقفِ الإنسانيّ، بينَ نبرةِ الفصحى ونبضِ الوطنِ. وفي زمنٍ يغرقُنا بالخطأِ والإهمالِ، كان هو نموذجَ الانضباطِ والتهذيبِ.
ربّما ستُكمِلُ اللغةُ رحلتَها، وستظلُّ المسابقاتُ تُقامُ والبرامجُ تُبثُّ، لكنَّ شيئًا من وهجِها سينقصُ. لأنّها فقدت أحدَ أبنائها الذين أحبّوها كما يحبُّ العاشقُ محبوبتَهُ: يصونُها من الزللِ، ويرفقُ بها حينَ تضعفُ، ويعلّمُها أن تظلَّ جميلةً رغمَ التعبِ.
سلامٌ عليكَ يا بسام، أيّها المعلّمُ الذي جعلَ من النطقِ فنًّا، ومن القواعدِ صلاةً، ومن الحرفِ رسالةً لا تنطفئُ.
سنذكُرُكَ كلّما جلسنا نُصحّحُ كلمةً، أو ننظّمُ مسابقةً، أو ندرّبُ طالبًا على الإلقاءِ. سنذكُرُكَ لأنّ اللغةَ، بكلّ أناقتِها وصلابتِها، ستظلُّ تفتقدُكَ.
كاتب لبناني وباحث في الأدب والفكر الإنساني
رحلَ بسام براك اليومَ، ورحيلُه ليس كغيرِه من رحيلِ الإعلاميين الذين تنطوي صفحاتُهم مع الأخبارِ اليوميّة. إنّه رحيلُ لغةٍ ناطقةٍ، وأداءٍ متقنٍ، وموقفٍ أخلاقيٍّ من الكلمة؛ صوتٌ عاشَ من أجلِ الحرفِ العربيّ، وماتَ وهو يحملُ في قلبِه همَّ صيانتهِ من الترهّلِ والابتذالِ.
عرفتُ بسامًا في ميادينِ اللغةِ والإلقاءِ، في مسابقاتِ الإملاءِ التي جمعَتنا، وفي لجانِ التصحيحِ التي كنّا فيها نحرسُ اللغةَ من خطأٍ عابرٍ أو تنوينٍ ضائعٍ. كان دقيقًا في نُطقهِ، صارمًا في حكمهِ، عطوفًا على من يريدُ أن يتعلّمَ، متواضعًا رغمَ علوِّ مكانتهِ. في كلّ لقاءٍ معه كنتُ أرى في عينيه محبّةً عميقةً للعربية، تلك التي آمنَ بأنّها ليست مجرّد وسيلةِ تعبيرٍ، بل هويّةٌ وانتماءٌ وحياةٌ.
وُلدَ براك في لبنانَ، وتخرّجَ في الإعلامِ قبلَ أن يشقَّ طريقَه إلى الميكروفونِ والشاشةِ، حيثُ برزت شخصيّتهُ المهنيّةُ الواثقةُ. بدأ مسيرتَه في إذاعةِ «صوت لبنان»، ثمّ انتقلَ إلى شاشةِ «المؤسّسة اللبنانيّة للإرسال»، مقدّمًا نشراتِ الأخبارِ ومشاركًا في البرامجِ السياسيّةِ والثقافيّةِ. لم يكن مذيعًا بالمعنى التقليديّ، بل معلّمًا خلفَ الميكروفونِ، يعلّمُ من خلالِ صوتِه ونُطقهِ كيف تكونُ اللغةُ أداةَ جمالٍ لا مجرّدَ ناقلٍ للخبر.
أصابَ المرضُ صوتَهُ ذاتَ يومٍ، في منطقةِ الدماغِ التي تسيطرُ على الكلامِ، وكأنّ القدرَ اختارَ أصعبَ امتحانٍ لمن عاشَ بالكلمةِ. خضعَ لعمليّاتٍ دقيقةٍ، وصارعَ الوجعَ بشجاعةٍ نادرةٍ، لكنّه ظلّ وفيًّا للحرفِ، معلّمًا في الجامعةِ الأنطونيّة، ومدرّبًا للأجيالِ على فنّ الإلقاءِ والنطقِ والإعلامِ. لم يتراجعْ يومًا عن أداءِ رسالتهِ، بل كانَ يواجهُ المرضَ بابتسامةِ مَن يعرفُ أنّ اللغةَ أقوى من الألمِ.
في دروسِه وندواتِه، كانَ بسام براك يربّي طلابَه على احترامِ الحرفِ، لا على التكلّفِ أو التصنّعِ. وكانَ يقولُ إنّ الإعلاميَّ لا يُقاسُ بصوتهِ فقط، بل بدقّةِ كلمتهِ، وبقدرتهِ على حملِ اللغةِ بكرامةٍ. لذلكَ أحبّهُ طلابُه وزملاؤُه، وأحبّوهُ أكثرَ حينَ اكتشفوا أنّ وراءَ المذيعِ الأنيقِ قلبًا أبويًّا يفرحُ لكلِّ تقدّمٍ لغويٍّ، ويغتبطُ حينَ يسمعُ جملةً صحيحةَ النطقِ والوقفِ.
لقد عاشَ براك من أجلِ الفصحى، تلك التي كانت تقاومُ الانحدارَ في زمنِ العجلةِ الرقميّةِ، فحملَها بلسانهِ وحافظَ على بهائها في الإعلامِ. كان يعرفُ أنّ اللغةَ لا تُصانُ بقرارٍ رسميٍّ، بل بعشقٍ شخصيٍّ لها، وبالغيرةِ عليها من الخطأِ. لذا أسّسَ أو شاركَ في مسابقاتٍ لغويّةٍ وتدريباتٍ إملائيّةٍ، وكان يؤمنُ أنّ التباريَ في الإملاءِ ليسَ ترفًا مدرسيًّا، بل تمرينًا على الانضباطِ والدقّةِ والاحترامِ.
كنتُ أراهُ في لجانِ التصحيحِ يتفحّصُ الورقةَ كما يتفحّصُ الجرّاحُ نبضَ مريضِه، لا يقبلُ التساهلَ في همزةٍ أو شدّةٍ، لأنّه كان يعتبرُ كلَّ خطأٍ خيانةً صغيرةً للّغةِ التي أحبّها. ومعَ ذلكَ، كان يصحّحُ بعينِ المربّي لا القاضي، فيشرحُ الخطأَ بلطفٍ، ويقترحُ البديلَ بصدقٍ، فيخرجُ المتعلّمُ من بينِ يديه مشبَعًا بروحِ العربيّةِ لا خائفًا منها.
اليومَ، ونحنُ نودّعُه، لا نحزنُ على شخصٍ فحسب، بل على مرحلةٍ من الصفاءِ اللغويّ كانت تطلّ من خلالِه. لقد خسرَ الإعلامُ اللبنانيُّ معلّمًا نادرًا في زمنٍ تتراجعُ فيه اللغةُ أمامَ زحفِ اللهجاتِ والمصطلحاتِ الأجنبيّةِ، وخسرَ طلابُ الإعلامِ أبًا لغويًّا علّمهم أنَّ احترامَ الكلمةِ أصلُ كلِّ مهنةٍ.
كتبَ أحدُ مريديه متسائلاً بمرارةِ الفقدِ: بمَن سنستعينُ حينَ تعجزُنا اللغةُ؟ يا سيّدَ التنوينِ والقواعدِ. وهي عبارةٌ تختصرُ ما يمثّلهُ للرأيِ العامّ الأكاديميّ والإعلاميّ معًا: صوتُ ضميرٍ لغويٍّ ظلّ يقاومُ تساهلَ الكلماتِ في نشراتِ الأخبارِ، ويرى في الفصحى مسألةَ كرامةٍ لا مظهرًا شكليًّا.
إنّ فقدانَ بسام براك يعني فقدانَ نموذجٍ جميلٍ للّغةِ حين تلبسُ صوتًا بشريًّا وتصبحُ حضورًا. كان يجيدُ الجمعَ بينَ الجملةِ الصحيحةِ والموقفِ الإنسانيّ، بينَ نبرةِ الفصحى ونبضِ الوطنِ. وفي زمنٍ يغرقُنا بالخطأِ والإهمالِ، كان هو نموذجَ الانضباطِ والتهذيبِ.
ربّما ستُكمِلُ اللغةُ رحلتَها، وستظلُّ المسابقاتُ تُقامُ والبرامجُ تُبثُّ، لكنَّ شيئًا من وهجِها سينقصُ. لأنّها فقدت أحدَ أبنائها الذين أحبّوها كما يحبُّ العاشقُ محبوبتَهُ: يصونُها من الزللِ، ويرفقُ بها حينَ تضعفُ، ويعلّمُها أن تظلَّ جميلةً رغمَ التعبِ.
سلامٌ عليكَ يا بسام، أيّها المعلّمُ الذي جعلَ من النطقِ فنًّا، ومن القواعدِ صلاةً، ومن الحرفِ رسالةً لا تنطفئُ.
سنذكُرُكَ كلّما جلسنا نُصحّحُ كلمةً، أو ننظّمُ مسابقةً، أو ندرّبُ طالبًا على الإلقاءِ. سنذكُرُكَ لأنّ اللغةَ، بكلّ أناقتِها وصلابتِها، ستظلُّ تفتقدُكَ.
الأكثر قراءة
المشرق-العربي
10/25/2025 1:09:00 PM
تأتي هذه الخطوة في وقت تعاني فيه العديد من المدارس السورية نقصاً حاداً في المقاعد الدراسية
لبنان
10/25/2025 8:33:00 PM
وُلد حمدان في 19 كانون الثاني (يناير) عام 1944، في قرية عين عنوب، قضاء الشوف في لبنان.
لبنان
10/26/2025 5:22:00 PM
اعتداء إسرائيلي جديد في جنوب لبنان...
ايران
10/26/2025 6:06:00 PM
المسؤول هو سردار عمار، القيادي البارز في الحرس الثوري الإيراني ورئيس "الفيلق 11 ألف" التابع لفيلق القدس بقيادة إسماعيل قاآني
نبض