مرايا الذات في "كتاب الغرفة" لعقل العويط

ثقافة 03-12-2025 | 18:35

مرايا الذات في "كتاب الغرفة" لعقل العويط

الكتاب سيرةٌ ذاتيّة، أو بعضُ محطّاتٍ وشذراتٍ منها.
مرايا الذات في "كتاب الغرفة" لعقل العويط
“كتاب الغرفة“ لعقل العويط. (نوفل / هاشيت أنطوان)
Smaller Bigger

الدكتور لطيف زيتوني 

لا أعرف شاعرا تلبّسه الشعر كما تلبّس الشاعر عقل العويط. فإذا كان الكاتب يلبس لكل نوع أدبي لَبوسه، فيكتب الرواية كروائي، ويكتب الشعر كشاعر، فإن عقل العويط يبقى شاعرا في شعره ونثره. ولعل أسلوبه في كتابه الصادر حديثا عن مؤسسة نوفل، بعنوان "كتاب الغرفة"، خير نموذج لهذا الاستغراق في الأسلوب الشعري إلى حد الغرق فيه، ولهذا التحليق فوق مادية الكلمات، كأنه في حالة هروب من واقعية العالم وسجن المألوف، أو في حالة سعي إلى الجديد والجميل في هذه اللغة العربية التي يحبّ.

يبدأ عقل العويط "كتاب الغرفة" بطرح مسألة النوع الأدبي الذي ينتمي إليه هذا الكتاب، لينتهي الى القول «إنني لست منهمّا بالتسمية، ولست أدري»، وحسنا فعل، لا لأن مسألة النوع خسرت أهميتها، وهي لم تخسر الكثير، بل لأنّ هذا النصّ مفتوح على تعدّد التحديدات بسبب كثرة تلاوينه الأسلوبية، وخصوصا البنيوية.

لم يشأ المؤلف أن يحسم هذا التحديد منذ البداية، فاستعار من «امرأةُ المدفأة والنبيذ والجبنة الفرنسيّة» قولها إن الكتاب «سيرةٌ ذاتيّة، أو بعضُ محطّاتٍ وشذراتٍ منها، بما فيها من أزمنةٍ متداخلةٍ ومتنامية، وتأمّلاتٍ وجوديّة، على هوى السرد الروائيّ». وأجدُني بعد قراءة هذا العمل موافقا على هذا القول، وهذا الوصف. إلا أن المؤلف عاد فأبدى رأيه في الولادة الذهنية للكتاب، فوصَفه بأنه «شيءٌ من حالةٍ سرديّةٍ، من سيرةٍ، من نصٍّ مفتوحٍٍ، ومن كتاب»، وأنا موافق أيضا على هذا القول، وهذا الوصف. فالفرق بين الوصفين هو فرق بين نظرة الناقد ونظرة المؤلف، بين النظر من الداخل والنظر من الخارج، لذا فهما يتكاملان.

وصف كتاب كهذا بالسيرة الذاتية لا يتطلّب التدقيق والمقارنة بين تفاصيله وتفاصيل حياة الكاتب. فكل عمل، أكان رواية أو قصيدة أو محاضرة أو مقابلة، أكان أدبيا أو حقوقيا أو علميا، أكان كتابة أو رسما أو نحتا أو تمثيلا الخ.. هو، في رأيي، جزء من سيرة صاحبه، ما دام تأليفه أو تنفيذه قد استغرق جزءا من وقته، أي جزءا من عمره. وما زال المؤلفون الى اليوم حين يوجزون سيَرهم يكتفون بسرد عناوين كتبهم وابحاثهم باعتبارها مرايا لما صرفوا أعمارهم في إنجازه.

ليس "كتاب الغرفة" سيرة بالمعنى المعروف، فالسيرة كما هو شائع هي تاريخ حياة، هي شريط ذكريات، هي ماضي صاحبها. لهذا لا يُقبل المرء على كتابتها قبل أن يصبح له ماضٍ يستحقّ الحديث عنه. "كتاب الغرفة" فيه بعض الماضي، والكثير من الحاضر. فيه بعض الأحداث، والكثير من التأملات والتصوير المباشر المرافق لزمن الكتابة.

 

“كتاب الغرفة“ لعقل العويط. (نوفل / هاشيت أنطوان)
“كتاب الغرفة“ لعقل العويط. (نوفل / هاشيت أنطوان)

 

السيرة بالمعنى المعروف تغلب عليها الحوادث التي انقضى زمانها والتي يستفيد القراء من معرفة تفاصيلها. "كتاب الغرفة" لا يتطلع إلى إفادة القراء، ولا يعرّفهم بما يجهلونه من الحوادث، بل يقدّم ما يعرّفهم بالكاتب نفسه. فهو يعرض القليل من حوادث الحياة، والكثير من التأملات والمشاعر والأفكار وأسلوب العيش بقلب مسحور وعزلة متنسك.

ولعل في عنوان الكتاب ما يكفي للفت الانتباه إلى هذه السيرة المتميزة. فمن طبيعة الغرفة أنها محدودة المساحة، وهي ككل مكان ضيق أو مقفل أو محصور لا يمكن أن تكون مكانا لحوادث كثيرة وتبدّلات واسعة، ولا مكانا للنظر إلى البعيد، أو للتفاعل مع الخارج. ولكنها المكان المناسب للنظر إلى ما في الداخل، داخل الغرفة وداخل الذات. وهذا ما كان.

فليس غريبا، والحال هذه، أن يبدأ السرد بالحديث عن أثاث الغرفة، بدءا بالسرير النحاسي التاريخي كأسرّة الفرسان والسادة النبلاء، والذي صار صديقه منذ لحظة تعارفهما. وليس غريبا أن ينقله الحديث عن هذا الصديق الى الحديث عن الصداقة. وليس غريبا أن ينقله الحديث عن هذا السرير إلى الحديث عن الحبيبة «امرأةُُ المدفأة والنبيذ والجبنة الفرنسيّّة». وليس غريبا أن يوسّع النظر الى المكتبة العامرة التي تغطي رفوفها الجدران. 
ومن المكتبة الى الغرفة، ومن الغرفة الى البيت الكبير، بيت الأهل في القرية، ثم عودة الى الحبيبة، امرأة النبيذ التي سكنت الروح والقلب قبل أن تسكن دنياه وعينيه. وهكذا..    

تداعيات ...
نعم تداعيات، فما إن تدور الذاكرة دورتها حتى تعود إلى البداية، إلى الغرفة. ولكن عودتها المتكررة ليست رتيبة متشابهة ممضّة كعود نيتشه، بل تتحكّم بها الأشياء كتلك الصورة التي تجمع "الفرسان الأربعة"، كما أسماهم، والذين صيّرهم الموت ثلاثة. فرسان لم تقوَ على تفريقهم حرب متمادية، ولا ظروف قاهرة. ولعل كلامه في بداية الكتابة عن الصداقة العميقة المنزّهة مستمد من هذه التجربة الخاصة.

وإذا كان حضور الحبيبة لا يفارق صفحات الرواية لأنه لا يفارق عقله، فإن المكتبة احتلت مساحة واسعة بمحتوياتها الغنية والمتنوعة: أقراص واسطوانات، ولوحات ومنحوتات، وكتب شعر وروايات، وفلسفة ونقد، بالعربية والفرنسية، وهذا الغنى يفضي إلى نتيجة حتمية، وهي العزلة. العزلة للقراءة، لسماع الموسيقى، للتأمل. وهذا التأمل كثيرا ما يطالعنا في صفحات الكتاب فينقلنا من صيغة الماضي الى صيغة الحاضر، من السرد إلى الوصف أو التحليل أو النقد الاجتماعي أو المناجاة، كمناجاة البحر أو المطربة فيروز.

غير أن هناك نصوصا تخرج في ظني عن التداعي الصرف. إذ يتميز كل منها بطوله أولا، وبأن الكلام فيه مجموع في مكان واحد، ومتماسك لا مبعثر كالكلام في الموضوعات الأخرى. هذه النصوص تتعلق بكلية التربية، وحركة الوعي، وكرة القدم والملحق الثقافي بجريدة النهار. وهو حين يكتب عنها تضجّ سطوره بشحنة من المشاعر تجعلها حية في النصّ. هذه النصوص الأربعة ليست مقحمة في الكتاب، بل هي جزء من ذاكرة المؤلف الذي كان طالبا في كلية التربية، وفيها تفتح وعيه الثقافي والاجتماعي. وكان عضوا مؤسسا في حركة الوعي التي نضجت في إطارها خياراته السياسية. وكان لاعب كرة القدم في بداياته، وظل شغوفا بها متابعا لمبارياتها المحلية والدولية. وكان رئيس تحرير الملحق الثقافي بجريدة النهار، وفيه انفتح على صناعة الثقافة، وأسس مكانته فيها قبل أن تترسخ هذه المكانة من خلال كتبه المنشورة التي يعرفها القرّاء.

أما النص الطويل والرائع الذي خصّصه لفيروز فهو نشيد يليق بكل عشاق صوتها، والأحرى به أن يكون رسالة حبّ من شعب لبنان كله الى هذه الأيقونة الفريدة.

 

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/8/2025 10:41:00 AM
فر الأسد من سوريا إلى روسيا قبل عام عندما سيطرت المعارضة بقيادة الرئيس الحالي الشرع على دمشق
النهار تتحقق 12/8/2025 10:43:00 AM
الصورة عتيقة، وألوانها باهتة. وبدا فيها الرئيس السوري المخلوع واقفا الى جانب لونا الشبل بفستان العرس. ماذا في التفاصيل؟ 
النهار تتحقق 12/8/2025 2:57:00 PM
الصورة حميمة، وزُعِم أنّها "مسرّبة من منزل ماهر الأسد"، شقيق الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد. ماذا وجدنا؟ 
أثار سكنه في شقة بتكلفة 2300 دولار شهرياً انتقادات من خصومه الذين يعتقدون أن راتبه كعضو في جمعية ولاية نيويورك ودخل زوجته يسمحان للزوجين بالسكن في شقة أفضل.