نقاش في الدعوة من الصحافي الفلسطيني زاهر أبو حمدة
سرّني أن أقرأ الدعوة - النقاش من الصحافي الفلسطيني الزميل (من دون معرفة شخصية) زاهر أبو حمدة، تعقيباً على تعليق كتبته في "النهار" تحت عنوان "مخيم شاتيلا والإساءة العمد إلى المسيحيين"، بعد سلسلة من الفيديوات والمنشورات التي ركزت على المسيحيين لتظهير صورتهم مدمنين ومتعاطي مخدرات.
وبما أن المقالة دعوة للنقاش، وليست ردّاً، علماً أن حق الردّ مكرس قانوناً، وهو حق ضمن شروط محددة، وبما أن الزميل (أكرر أني لا أعرفه شخصياً وربما نتعارف بعد هذا النقاش فنستكمله وجهاً لوجه) اعتمد معايير المهنية والأخلاقية، فقد رأيت أن من الواجب المهني أيضاً ألا أهمل دعوته، فأدلي بدلوي مرة جديدة، بمقال أوسع وأكثر عمقاً، لتوسيع النقاش ومحاولة الإجابة عما طرحه من أفكار، بقدر ما تتسع له المساحة.
كتبتُ في سياق تعليقي على حادثة مقتل الشاب إيليو أبو حنا، ولعدم استباق أي تحقيق وإطلاق الأحكام، أنه لا يجوز قتله ولو أنه افتراضاً قصد المخيم طوعاً لشراء مخدّر، خصوصاً أنه تم إعدام فتاة أخرى بعد يومين من الحادثة الأولى. وليس لهذا المشهد أي تفسير، سوى أن المخيم صار مرتعاً لإنتاج المخدرات والإتجار بها، ووكراً للمتعاطين والتجار. ولا يعني حكماً أنه المكان الوحيد. وبالتالي وجب اتخاذ إجراءات مشددة فيه إذا أمكن الدولة اللبنانية فعل ذلك، خصوصاً أنها لا تزال تفاوض حتى الساعة على تسليم ثلاثة متهمين مطلوبين للتحقيق. ولم تنجح المحاولة بعد مرور أكثر من أسبوع على الجريمة، ما يعني أن المخيم وغيره من المخيمات لا تزال دويلة ضمن الدولة.
يقول وزير الدفاع ميشال منسى بالأمس، إنه لا يجوز بقاء سلاحين في الدولة. المشكلة في لبنان أن الأسلحة متعددة الهويات والانتماءات، وإذا كانت الحكومة أقرت مبدأ حصرية السلاح، والمجتمع الدولي يمارس عليها ضغوطاً لتنفيذ القرار بحلول نهاية السنة الجارية، فمن الصعب أن تطالب الدولة "حزب الله" بما هو "مقاومة" بوجه الاحتلال الإسرائيلي، ومكوّن لبناني أصيل، بتطبيق خطة ما، تعجز الدولة حتى تاريخه عن تعميمها على المخيمات الفلسطينية في لبنان، وبالتالي تصبح هذه المخيمات عقبة أمام بناء مشروع الدولة، وإن كان متعثراً على الدوام.
المسعى الأخير الذي قام به الرئيس محمود عباس مشكورا لمساعدة لبنان في حصر السلاح، طبّق بما يحفظ ماء الوجه ليس أكثر، بسبب تعنت فصائل فلسطينية في رفضها تسليم السلاح، باعتباره عامل قوة في وجه العدو، علماً أن هذا السلاح لم يستخدم في مواجهة إسرائيل، ولا خدم القضية الفلسطينية، بل تحول إلى عامل عدم استقرار في لبنان.
ما حصل من ردات فعل في الأسبوعين الماضيين، وقد وصفته أنت "في سياق جوقة لديها مايسترو يوجهها بكبسة زر"، فإني لا أجد نفسي معنياً به، أو بالتعليق عليه، لأني لا أعبّر إلا بمقدار تفاعلي مع مجتمعي ومحيطي، الذي استاء من التحريض أكثر من الجريمة في ذاتها. والتفاعل أمر طبيعي، وقد دخلت أنت في حلقته من الضفة المقابلة. وحبذا لو كتب أكثر من صحافي فلسطيني مستنكراً وشاجباً ورافضاً ما حصل وما يحصل، لكان وفّر على كثيرين - وربما أنا منهم - التعليقات. والموقف من القتل، ولو بالرصاص الطائش، استنفد منا الكثير من التعليقات والمقالات، لأنه رفض للقتل، سواء كان القتيل مسيحياً أو مسلماً، لبنانياً أو فلسطينياً.
كتبتَ أيها الزميل: "يتضح أن مسيحية الأستاذ (أي أنا) نقحت عليه". وأكملتَ: "ولو افترضنا أن الشهيد أو مَن يظهرون بالفيديو من طائفة أخرى، هل سيكون هذا موقفه؟ بكل تأكيد لا. والدليل أنه قُتل الكثير من الأبرياء والضالعين بالمخدرات في السنوات الماضية، ولم نعرف موقفه حينها".
هذا الحكم المبرم، يمكن الإجابة عنه من مقالاتي والقضايا التي أثيرها، وآخرها كان الفصل بين اللاجئين السوريين والنظام السوري الأسدي، الذي أمعن في ضرب هوية لبنان وتغيير تركيبته واضطهاد ناسه وإذلالهم، فلا يتحول اللاجئون ضحايا هذه المواقف.
تسالني: "أستاذ غسان، هل تذكر الشاب صابر مراد؟ طبعاً لا تذكره، وربما تبحث في غوغل عنه، وربما لا تهتم. هذا الشاب الفلسطيني قبل 6 أعوام فدى بنفسه كل الجموع حوله، ولم يسأل عن جنسيات الضحايا ومللهم".
وهنا أعيدك إلى مقالتي في تاريخ 7 حزيران 2019 بعنوان "صابر مراد يستحق الجنسية اللبنانية"، ومما ورد فيها آنذاك: "(...) ولأنه مستحق، على أحدهم أن يبادر إلى تقديم اقتراح رسمي بمنحه الجنسية اللبنانية تلبية لنداءات مئات اللبنانيين الذين تضامنوا معه، ولو في العالم الافتراضي، ولتأكيد بعض من حضارية الدولة والحكم لدينا، فيعاقب المذنب، ويكافأ المضحّي والبطل، أياً تكن جنسيته وعرقه ودينه".
أما مسيحيتي، فتؤثر في تفكيري وعيشي، لأنها أثرت في تربيتي، وهي مسيحية لبنانية، عروبية، منفتحة على لقاء الآخر والعيش معاً، لا التعايش الأشبه بالمساكنة، كما الحال اليوم، وهي لا تميز إنسانياً وأخلاقياً. وأنا حريص على عدم القبول بالإساءة إلى المسيحية والمسيحيين، وحريص على دورهم في لبنان، (وعلى المناصفة والتركيبة الحالية مع بعض التطوير الضروري) بما يضمن بقائي وعيشي في إطار متعدد، ومنفتح، ومتفاعل مع الخارج، وأرفض الإساءة إليهم، لا من مسلمين، بل من مسيحيين أيضاً، إلا من باب النقد البنّاء الذي أمارسه شخصيا، وقد وتّر علاقتي مرات عدة برجالات ونساء في الإكليروس المسيحي.
ولضيق المساحة، أعلّق على ما وصفته بـ"استحضار بعض التاريخ المشوّه"، وهنا جدل كبير، لأن بعض التاريخ وجهة نظر، وقراءة من وجهات مختلفة، ولم يكن اللجوء الفلسطيني إلى لبنان عملاً اختيارياً للفلسطينيين، ولا القبول به خياراً لدى اللبنانيين، لكن المؤكد أنه مليء بالتجاوزات، وقد عايننا فصولها تكراراً. ولم يكن ليحظى بالتأييد الحزبي المسيحي، بل إنه خسر بعض المؤيدين والمتعاطفين على مراحل، وهو يحتاج إلى قراءة جديدة، صعبة ومعقدة بالتأكيد، لأن العودة شبه مستحيلة، وبالتالي فإن التعايش يبقى الحل الوحيد، ويحتاج إلى جهد كبير. وللنقاش تتمة...
نبض