الثورة التي هرمت… والنظام الذي ينجو بالتنفس
في شوارع طهران، لم تعد الشرطة تبحث عن خصلة شعر هاربة من تحت الحجاب، ولا عن شباب يرقصون على أهازيج أغانٍ إيرانية يترنحون في الطرقات. المدينة تغيّرت نبرتها؛ أقل خوفاً، أكثر ضجيجاً، كأنها تختبر صبر نظام أدرك متأخراً أن سلطته لا يمكن أن تبقى مشدودة إلى ماض يختنق.
الحجاب، والاختلاط، والتدخين للنساء، والرقص في الأماكن العامة، لم تعد خطوطاً حمراً كما كانت.
تتوالى المقاطع المصورة على وسائل التواصل الاجتماعي لتكشف واقعاً جديداً: نظام يغضّ الطرف عمداً، لا لأنه أصبح أكثر تسامحاً، بل لأنه أصبح أكثر حذراً.
فبعد الهجمات الإسرائيلية الأخيرة، وصلت طهران إلى قناعةٍ مفصلية: أن المعركة القادمة، إن وقعت، لن تكون مع تل أبيب ولا مع واشنطن، بل مع الشعب نفسه. وهنا بدأ التخفف المحسوب من رموز الثورة؛ إذ فضّل النظام أن يتراجع خطوة عن صرامته، بدل أن يُدفع بالقوة نحو الهاوية. لكن، هل نستطيع القول إن الغرب أخطأ في قراءة إيران مرة أخرى؟ أم أن النظام يقرأ الغرب بطريقة جيدة؟
في أواخر السبعينيات، حين كانت شوارعها تضجّ بالاحتجاجات، ظنّت العواصم الغربية أن الشاه خالد لا يزاح، وأن قبضة الحداثة الموجَّهة بالحديد والنفط كفيلة بإسكات الغضب الشعبي. لكن النظام الملكي انهار فجأة، وكشفت الثورة الإيرانية عن عمق لا تراه العيون الغربية المدمنة على الأرقام لا على العواطف.
بعدها بعقد تقريباً، أعاد الغرب الرهان بثوب مختلف. صدام حسين كان هذه المرة السيف الذي سيطيح بجمهورية الخميني الوليدة، لكن الحرب الطويلة لم تسقط النظام، بل صقلته.
خرجت إيران من الحرب أكثر انغلاقاً، لكنها أيضاً أكثر صلابة وإصراراً على البقاء، وقد امتزج في خطابها الدين بالسياسة، والمظلومية بالقوة. واليوم، بعد أكثر من أربعة عقود، عاد بنيامين نتنياهو ليجرّب الحظ ذاته. فمع العملية العسكرية التي شنّتها إسرائيل على إيران، تخيّل أن الانفجارات قد تفتح الباب أمام انتفاضة داخلية تُنهي النظام من الداخل، لكن طهران خيّبت رهانه كما خيّبت رهانات من سبقه؛ فالنظام الإيراني لا يُقاس بمؤشرات القوة، بل بقدرته المستمرة على إعادة التشكّل كلما ضاق عليه الخناق.
إيران قرأت أخيراً أن الخطر الحقيقي ليس في الغزو الخارجي، بل في الغضب الداخلي. لهذا نسجت توازناً دقيقاً بين الدولة والجيش والعقيدة، ومثلما وضعت الحرس الثوري والباسيج كجدار واق بين السلطة وأي احتمال لانقلابٍ أو تمرّد من داخلها، تُعيد اليوم تموضعها مرة أخرى. تخفف القيود عن الشعب الذي كان أمل تل أبيب وواشنطن بإحداث الفارق في الضربة الأخيرة.
إنها تمضي نحو براغماتية إسلامية تشبه ما فعلته الصين مع الشيوعية: إبقاء الرموز وتبديل المضمون. تتحدث لغة الثورة لتبرّر منطق الدولة، وتسمح ببعض الهواء كي لا ينفجر الصدر. النظام الذي كان يحكم باسم الثورة، بات يحكم باسم البقاء.
في جوهر المشهد، تعيش طهران مفارقة قاسية:
تُخفف القيود لتُحافظ على الشرعية، وتُهادن المجتمع لتُؤجل الانفجار. لكنها بذلك تعترف — ضمنياً — أن الثورة التي ملأت الشوارع ذات يوم، أنهكت نفسها وهي تحاول أن تبقى أبدية.
وما بين الرموز التي فقدت معناها، والشعب الذي فقد خوفه، تبدو إيران مقبلةً على مرحلة دقيقة، لا تُسقط النظام، لكنها تُعرّيه من قدسيته، وتُظهره — للمرة الأولى منذ 1979 — كدولة تحكم لا لأنها مُلهمة، بل لأنها ما زالت قادرة على التنفس.
لكن هنا يطلّ السؤال الأثقل، سؤال يُشبه اختبار التاريخ للثورات حين تشيخ: هل يتخلى نظام الملالي أكثر عن عقيدته، فيساوم على شعاراته ليشتري مزيداً من الوقت؟ أم أن الاستراتيجية الخارجية — سواء حملت وجه واشنطن الهادئ أو قبضة تل أبيب الصلبة — ستسبقه في فكّ شيفرته، وتفكك اللغز الإيراني قبل أن ينجح هو في إعادة تركيب نفسه؟
فإيران اليوم ليست أمام خصومها فحسب، بل أمام مرآتها؛ كل خطوة نحو المرونة تُقرّ بأنها لم تعد الثورة التي كانت، وكل تشبّث بالماضي يُقرّ بأنها لم تعد الدولة التي تريد أن تكون.
نبض