ما بعد شرم الشيخ... تثبيت الاتفاق وحماية مساراته

يقف اتفاق وقف النار في غزة على حافة دقيقة، إمّا أن يُستكمَل كمسارٍ متدرّج يطفئ الحرب ويعيد بناء السياسة، وإمّا أن يتبدّد تحت ضغط فرقاءٍ يتقاطعون على هدفٍ واحد هو إسقاطه لأسباب متعارضة.
بين هذين الخيارين تجري لعبة أعصاب معقّدة؛ واشنطن تدفع نحو التنفيذ السريع، اليمين الإسرائيلي يلوّح بالعودة إلى الحرب، و"حماس" تعيش تناقض البقاء السياسي مع شرط نزع السلاح، فيما تتحرّك وساطات القاهرة والدوحة وأنقرة لتثبيت ما اتُفق عليه في شرم الشيخ.
الوقائع الأولى بعد القمة كشفت هشاشة المشهد. خمسة أيام هادئة تلاها اشتباك في رفح كاد يطيح الهدنة. تعذّر التحقق المستقل بسبب عدم وجود مراقبين دوليين أفسح المجال لروايات متضاربة. الرسالة الأهم هنا ليست في “من بدأ”، بل في أن أي فراغٍ رقابي سيتحوّل فوراً إلى ثغرةٍ ينفذ منها المخرّبون، وأن الإيقاع الأميركي - إيفاد كوشنر وويتكوف ولقاءات نائب الرئيس جي دي فانس - هو ما أعاد الأطراف إلى النص بعد ساعات من الانفلات.
مشكلة نتنياهو مزدوجة، انتخابات يلوّح بها ويمينٌ متطرف يطالبه بإكمال الحرب، في وقتٍ تتزايد تكلفة العزلة الدولية وتصدّعات الداخل الإسرائيلي اقتصادياً ومجتمعياً. لذلك يتصرّف على حافة الاتفاق؛ يلوّح بتعديل خطوط الانسحاب ويستخدم المعابر كورقة ضغط، ثم يتراجع تكتيكياً تحت سقف الضغوط الأميركية، في سلوك يؤكد أن الضمانة ليست “نوايا” الحكومة بل تكلفة الخروج على الخطة عندما تُقاس يومياً وتُعلن للرأي العام.
ولا تملك "حماس" ترف الغموض. صورتها التي تضرّرت منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر ازداد نزفها مع مشاهد الإعدامات الميدانية بحق فلسطينيين بتهم “التخابر”. وليس بغريب على ميليشيا مسلحة أن تدير “عدالة الشارع” خارج القانون. وبالمعيار البارد للمصلحة، فإن أي تمسّكٍ بالسلاح سيعني عملياً تمديد الحصار السياسي والاقتصادي وحرمان الإعمار من شروطه الدولية.
ثمة عامل ثالث لا يقل حسماً، التحول الجاري في الولايات المتحدة نفسها. الإجماع التقليدي على دعمٍ غير مشروط لإسرائيل يتآكل داخل النخبة والرأي العام، بما في ذلك بين اليهود الأميركيين والشباب الجمهوريين. هذا لا يعني انقلاباً فورياً في السياسات، لكنه يقلّص هامش المناورة أمام أي حكومة إسرائيلية ترغب في الاستمرار في “حربٍ بلا نهاية” أو إدارة احتلالٍ معلن في الضفة والقطاع. بكلمات أخرى، تثبيت الاتفاق هو أيضاً طريق إسرائيل الوحيد لترميم صورتها وشراكاتها، لا سيما وقد باتت عبارة “العزلة الدولية” جزءاً من قاموسها الداخلي.
ويظهر الدور العربي والخليجي والمصري خصوصاً كشرط تنفيذي. القاهرة هي رئة لوجستية وأمنية للاتفاق، وأبوظبي والرياض ومعهما عواصم أخرى قادرة على مواءمة التمويل مع معايير شفافة للإغاثة وإعادة الإعمار، وربط الدفعات بتقدم ملموس في الأرض. “الدعم المشروط بالامتثال” هو أفضل ردّ على هوامش التعطيل من الجانبين، وهو أيضاً ما يبقي أفق حل الدولتين حياً بوصفه نتيجة تدريجية لا شعاراً.
هل تكفي الخطة الأميركية بذاتها؟ لا. ما يرجّح كفّتها هو تحويلها من “صفقة” إلى “مسار”. مراقبة متعددة الجنسيات تبدأ عملها فوراً وتصدر تقارير مختصرة يومياً، خرائط انتشار وانسحابات معلنة لا تُترك لتأويلات “الخط الأصفر” على شاشة هاتف، وتدرّج واقعي في ملف السلاح يربط كل خطوة بتحسّن أمني وإنساني قابل للقياس. هكذا فقط يفقد المتطرفون - في إسرائيل وغزة سواء - قدرتهم على خطف المشهد.
الخطة لا تعالج كل القضايا النهائية، صحيح. لكن بديلها ليس اتفاقاً “أكمل” بل انهيار أسرع. منطق المرحلة يقتضي بناء “سلال أمان” تمنع الارتداد. ليست مثالية ساذجة، إنها براغماتية إنقاذ تُقصّر أمد الحرب وتطيل عمر السياسة.
الخطر على الاتفاق حقيقي، لكنه ليس قدراً. وكلفته على المعرقلين يجب أن ترتفع سياسياً ومالياً وأخلاقياً، وتكلفته على الملتزمين يجب أن تنخفض عبر مكاسب ملموسة للناس. عندها فقط يصبح سؤال “هل يثبت اتفاق شرم الشيخ؟” أقل واقعية من سؤال “كيف نحمي مساره حتى يصل؟”
*كاتب إماراتي