على ضفاف التسامح... حكاية إماراتية في قلب روما

لم تكن رحلتي إلى روما سوى استراحة قصيرة من زحمة الأيام. لكن المدينة التي اعتادت أن تخبّئ التاريخ في كل زاوية، خبّأت لي هذه المرة صدفةً أجمل من التخطيط.
بين أروقة مكتبة المعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية، وجدت نفسي وسط ندوة حملت عنواناً عميقاً: "السلام والتسامح في عالم مضطرب"، نظّمها مركز "تريندز" للبحوث والاستشارات لمناسبة إطلاق مكتبه الافتراضي في إيطاليا. لم أكن على الموعد، لكن القدر كان.
حين جلست في القاعة، كان الصمت يسبق الكلمات، وكأن الحضور على اختلاف لغاتهم وتنوع دياناتهم وخلفياتهم الثقافية جاءوا ليصغوا إلى صوتٍ واحد: صوت الإنسانية. هناك، التقيت الدكتور محمد العلي، الرئيس التنفيذي لـ"تريندز"، في حديثٍ عابر تحول إلى مساحة فكرية مفتوحة. لم تكن كلماته عادية، كان يتحدث بعين الباحث وقلب الإنسان؛ يرى في المعرفة جسراً بين الأمم، وفي الحوار طوق نجاة من ضجيج الكراهية الذي يملأ العالم.
أدركت حينها أن هذا المشروع، رغم أنه واحد من عشرات المبادرات التي أطلقها "تريندز"، يحمل جوهراً مختلفاً. إنه ليس فعالية عابرة، بل رسالة طويلة المدى، تقول إننا - في عالم يزداد انقساماً - بحاجة إلى من يذكّرنا بأن التناغم بين الديانات والثقافات ليس ترفاً، بل ضرورة للنجاة الجماعية.
لم يكن الحضور الرسمي غائباً، بل كان مشرقاً بحضوره الإنساني. فقد شهدت الندوة مشاركة سعادة عبد الله علي السبوسي، سفير دولة الإمارات لدى إيطاليا، الذي بدا في كلماته وسلوكه كأخ لكل مواطن إماراتي تطأ قدماه هذه الأرض البعيدة. التقيته لاحقاً في السفارة، وكان الحوار معه امتداداً لما بدأ في القاعة: دفء الوطن في الغربة، وصدق الانتماء في أبسط التفاصيل.
أمام هذا المشهد، شعرت بالفخر. فبينما يرفع كثيرون شعارات التسامح، كان شباب "تريندز" يجسدونها عملاً ومعرفة، بحضور هادئ وفاعلية ذكية تليق بصورة الإمارات في العالم. مشروعهم في روما لم يكن افتتاح مكتب فحسب، بل فتح نافذة جديدة للحوار بين الشرق والغرب، بين الدين والفكر، بين الإنسان وأخيه الإنسان.
خرجت من الندوة وأنا أحمل يقيناً جديداً بأن بناء السلام يبدأ من مثل هذه اللحظات الصغيرة، من لقاء صادق، أو فكرة تُقال بحب، أو مشروع يؤمن بأن المعرفة طريق إلى التقارب لا التنافر.
وفي زمن تتكاثر فيه الضوضاء وتضيع فيه الحقائق بين صخب المنابر وتدفق الشاشات، يبرز "تريندز" كمساحات عقل وهدوء. ليس مجرد منصات بحثية تنشر الدراسات، بل مختبرات فكر تُعيد للعقل مكانته في عالم يلهث خلف المجهول. فالمركز، برؤيته الممتدة من أبوظبي إلى العالم، يفتح نوافذ للحوار حيث تُغلق الأبواب، ويبني الجسور حيث تُقام الأسوار.
نحن اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بحاجة إلى مؤسسات كهذه؛ مؤسسات تُعيد تعريف القوة لا بوصفها سلاحاً أو نفوذاً، بل معرفة وتأثيراً وصدق نية. مشاريع تجمع ما بين البحث والضمير، بين الفكرة والعمل، بين الشرق والغرب، وتؤمن بأن مستقبل الإنسانية لا يُكتب في صراع الحضارات بل في تعاونها. فالعالم المرهق بخطابات الخوف يحتاج إلى فكر يشبه فكر "تريندز": هادئ في لغته، جريء في طرحه، ومخلص في سعيه نحو سلام يقوم على الفهم لا على الشعارات.
وفي طريق عودتي بين شوارع روما القديمة، وبين جدرانها العتيقة التي تحمل صدى قرون من الفلسفة والفن والإيمان، أدركت أن بعض الرحلات لا تُقاس بعدد الأيام، بل بما تُحدثه في داخلنا من إيمان بأن الخير ما زال ممكناً، وأن الإمارات - بقيادتها وعقولها وشبابها ومؤسساتها - لا تصدّر الثروة وحدها، بل الأمل أيضاً.