الإعمار حاجة ضرورية كي يعود الأهالي إلى بلداتهم وقراهم، بل هو واجب وطني على كل دولة محترمة، والدول تكون محترمة بنوعية الحكم القائمة على احترام الدستور، وعلى اختيار الأفضل والأكفأ والأنظف كفاً لتولي المسؤولية في كل المواقع الإدارية، وهي ليست حالنا على الدوام بالتأكيد، خصوصاً بعد سواد حكم الميليشيات التي اجتاحت الدولة كلها في تسوية وصفقة لإنهاء حال الحرب واستيعاب المقاتلين الشرفاء الذين دافعوا عن قضية، وبعض السياسيين التجار الذين تاجروا بكل قضية. وما بالكم بمقاتلين تمختروا بالعمامة أو لبسوا الثوب الرهباني، فإذ بهم أيضاً ينقلون الجبهات والمتاريس والتصرفات الرعناء إلى المؤسسات الدينية التي بات ينخرها الفساد من كل حدب وصوب؟

حالياً، تدور معارك حول إعمار الجنوب والبقاع والضاحية ومناطق أخرى تضررت من العدوان الإسرائيلي المستمر من دون توقف، ومن دون القدرة على التصدي له أو مقاومته، وخصوصاً من أولئك المزايدين، والذين لم ينتظروا قرار الدولة يوماً في توريطها بحروب الخارج، أو بتحدي قرارها بدويلاتهم القائمة والموازية لكل مؤسسات الدولة، بل والمؤثرة في قراراتها، وإذ بهم اليوم يأخذون عليها عدم التصدي للعدوان بعدما عجزوا عن ذلك.

وإذا كان الجدل قائماً حول ملف الإعمار، فإن كلام الرئيس نبيه بري قبل أيام أمام وفد صحافي أشعل هذا الجدل، وحرّك المياه الراكدة، لا لدفع الإعمار، وإنما لإثارة مزيد من المواقف المتشنجة، على أبواب انتخابات نيابية تحتاج إلى شحذ الهمم، لأن الرئيس بري نفسه يدرك أكثر من غيره استحالة القيام بالأمر في ظل الضغوط الدولية على لبنان، والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة التي تمنع حتى استخدام بيوت مصنوعة سلفاً، وهي بيوت صغيرة وموقتة. 

وتأخُّر الإعمار اعتبره أحد رجال الدين الشيعة حصاراً من الدولة على أهل الجنوب والبقاع والضاحية، أي على الشيعة تحديداً، علماً أنه يشمل كل المواطنين في تلك المناطق، إذا كان فعلاً أمراً مدبراً. 

وهنا لا بد من تصويب هذا الجدل ذي الفحيح الطائفي- المذهبي، الذي تردد القيادات الشيعية أنها تتجنب الوقوع فيه، بل لا تريد الخوض فيه، لأنها تدرك جيداً آثاره السلبية. ولا بد من إثارة النقاط الآتية: 

أولا- هل يعرف المزايدون أن ثمة وزارة في لبنان لا تزال قائمة تسمى "وزارة شؤون المهجرين"، وهي كانت تعنى تحديداً بمهجري الجبل، أي الشوف وعاليه وبعبدا، وهي لم تنهِ مهماتها منذ نشوئها قبل نحو 30 سنة، ولم تنجز أعمار بيوت للمسيحيين في تلك المناطق؟ وهل يعلم المزايدون كم من قرى مسيحية في قضاء بعلبك دُفع أهلها إلى الهجرة وصودرت أملاكهم في زمن الحرب ولم تعالج المشكلة منذ تاريخه؟

ثانيا- هل يعلم المزايدون أن الدولة تحاصرنا جميعاً، فلا كهرباء ولا ماء لدينا، والخدمات في أدنى مستوى، في بيروت وجبل لبنان، ولا يقتصر الأمر على الجنوب والبقاع، وأن نهضة تلك المناطق يحققها القطاع الخاص الناشط بحيوية وعقل متحرر، لا الدولة المحكومة من الميليشيات التي غالبا ما تتقاسم المغانم وتوزعها على أزلامها؟ 

ثالثا- هل يعلم المزايدون أن أوتوسترادات الجنوب ومستشفياتها ومدارسها الرسمية أفضل حالاً من أخرى مشابهة في بعبدا والمتن الشمالي وكسروان، لأن مجلس الجنوب، مشكوراً، قام بذلك، في حين لم تتوافر الصناديق الداعمة لمناطق أخرى؟
رابعاً- ذكّر رئيس الحكومة نواف سلام في معرض رده على رئيس المجلس بأن وزارة الشؤون الاجتماعية أمنت مساعدات شهرية لـ67 ألف عائلة متضررة، فضلاً عن بدل إيجار شهري لـ10 آلاف عائلة مهجرة، ووزارات الأشغال والاتصالات والطاقة باشرت الإصلاحات الضرورية لإعادة الخدمات، وكُلّف كلّ من مجلس الجنوب والهيئة العليا للإغاثة الإسراع في الأعمال، وحُوّلت المبالغ المطلوبة، والأهم أن الحكومة حصلت على قرض من البنك الدولي بـ250 مليون دولار لإعادة إعمار البنى التحتية. واتهم سلام بري بعدم إقراره في المجلس. فهل هذه الأرقام صحيحة؟ أو يمكن نقضها؟ 
خامسا- في 23 أيلول الفائت، كشف وزير المال ياسين جابر (أحد ممثلي الثنائي الشيعي في الحكومة) أنّه "ستعقد الأسبوع المقبل جلسة للمجلس النيابي ليتم إقرار قانون باتفاقية مع البنك الدولي بقيمة 250 مليون دولار مخصص لإعادة إعمار البنى التحتية في المناطق المتضررة".

وردّاً على سؤال عن موعد بدء عملية الإعمار، أجاب جابر: "فوراً، عندما يقر القانون في المجلس النيابي، خلال بضعة أيام يبدأ إمكان استخدام القرض، وسيكون مجلس الإنماء والإعمار هو المختص بتنفيذ مشاريع هذا القانون. وهذا القرض هو مبلغ تأسيسي لصندوق أكبر، منه مساهمة بقيمة 75 مليون يورو من فرنسا".

أضاف: "بمعزل عن الصندوق، فإن الحكومة اتخذت قرارا وقدمت أخيرا مساهمة كبيرة لمجلس الجنوب، كما بدأت دراسة كلفة الأبنية المتصدعة في الضاحية الجنوبية، وتصل إلى خمسمئة مبنى، وقد خصصت موازنة للمساعدة في بدء معالجة تصدعاتها، من الهيئة العليا للاغاثة التي حصلت أيضا على مساهمة من خزينة الدولة، وقد يتم تكليف شركة خطيب وعلمي وشركات أخرى إعداد الدراسات اللازمة. هناك خطوات وفق القدرة المالية للدولة على المساهمة في هذه الورشة".

سادسا- نهار الثلثاء 15 نيسان 2025، استقبل الرئيس سلام وفداً من مجلس الجنوب (مجلس الجنوب مؤسسة حكومية لمن لا يعلم) برئاسة هاشم حيدر الذي قال بعد اللقاء: "أطلعنا رئيس الحكومة على الإجراءات التي يقوم بها المجلس في الجنوب بعد وقف إطلاق النار وعودة الأهالي، حيث تولّى المجلس فتح الطرق تسهيلاً لعودة الأهالي، وبدأنا بعملية إزالة الردم، كما أجرينا مسحا للأضرار في المنازل وأنجزنا نحو 80 في المئة في هذا العمل، إضافة إلى مسح الأضرار في الإدارات العامة والمباني الرسمية، وأعددنا جدولا فيها، كذلك أنجزنا ترميم 125 مدرسة رسمية تمكينا لعودة الطلاب إلى الدراسة. وهناك نحو 45 مدرسة أعدت ملفاتها وستنجز قريبا، و80 مبنى رسميا كالمستشفيات والسرايات والمستوصفات ومراكز دفاع مدني نقوم بترميمها حاليا، وكل هذه الأعمال تتم بالتنسيق مع الإدارات المعنية".

أمام كل هذه الوقائع، كيف يمكن إطلاق الاتهامات بأن الدولة لم تقم بواجبها، ضمن إمكاناتها المحدودة بالتأكيد؟ الواقع أن كلام أهل بيت "الثنائي" يكفي للاطلاع على الحقيقة.