قراءة في خطط ترامب للسلام في الشرق الأوسط

بعد الاتفاق الأخير بين "حماس" وإسرائيل للجزء الأول من خطة ترامب الأخيرة، يعتقد البعض بأن هذه الخطة هي الأولى من نوعها. وللتذكير، فإن ترامب في دورته الأولى التي امتدت لأربع سنوات بين عام 2017-2021، وبمشاركة صهره جاريد كوشنر، وضع خطة سمّيت وقتها "السلام من أجل الازدهار"، ركّز فيها على الجوانب الاقتصادية والتنموية، وكان من المفروض أن تشكل قاعدة لبناء اتفاق سياسي لاحق يشمل قضايا القدس والحدود واللاجئين والأمن.
أهم ملامح تلك الخطة هي استثمار بقيمة 50 مليار دولار في مشاريع داخل الأراضي الفلسطينية، غزة والضفة، وفي دول الجوار مصر والأردن ولبنان، وإنشاء ممر اقتصادي يربط غزة بالضفة الغربية، وتشجيع القطاع الخاص والمستثمرين العرب والدوليين على الدخول في مشاريع بني تحتية في المنطقة، بالإضافة إلى تأسيس صندوق دولي للسلام والاستثمار، بإدارة أميركية - خليجية - أوروبية. وأخيراً، ربط الدعم الاقتصادي بالالتزام الفلسطيني والإسرائيلي بالتعاون الأمني والسياسي.
هكذا كانت الخطوط الرئيسية لخطة ترامب الأولى، إلا أن الأمور لم تجر وفق ما توقعت إدارة ترامب في ذلك الوقت؛ فقد خسر الانتخابات الرئاسية، وجاء بعده لأربع سنوات الرئيس الديموقراطي جو بايدن، وبقية القصة معروفة إلى أن وصلنا إلى 7 تشرين الأول/ أكتوبر وتداعياته الكارثية في المنطقة.
خطة ترامب الجديدة ذات الـ 20 بنداً، تختلف عن سابقتها الأولى في تفاصليها، وهي تتكون من 20 نقطة محددة، تهدف أولاً إلى وقف إطلاق النار وإعادة الرهائن الإسرائيليين وتفكيك القدرات العسكرية لحركة "حماس" وإنشاء هيكل لحكومة انتقالية في قطاع غزة، وتكون منطقة خالية من التطرف والإرهاب ولا تشكل تهديداً لجيرانها.
في هذه الخطة أيضاً هناك احتمال للعفو عن مجموعة من قيادات "حماس" عدا المتورطين في أحداث 7 أكتوبر إن وجدوا، ومن يرغب من الباقين في مغادرة غزة فسوف يذهب إلى دول تستقبلهم؛ عندها، سوف يجري إرسال مساعدات إلى قطاع غزة بكميات متفق عليها تساعد على انتشال أهل غزة من الجوع.
الحكومة الانتقالية لغزة سوف تشرف عليها لجنة دولية مباشرة مع السيد توني بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، وبإشراف كامل من الرئيس الأميركي، الذي سمّى مجلس السلام مع رؤساء دول آخرين سيتم الإعلان عنهم وفق ما قيل في وقت لاحق، كما طلب من السلطة الفلسطينية أن تقوم بإصلاحات داخلية واسعة. ولكن هذه الإصلاحات هي عناوين لم يعرف بعد تفاصيل ما هي تلك الإصلاحات وكيفية تنفيذها!
الاتفاق الأخير تم بسبب عدد من العوامل الدافعة، منها ما حدث لأهل غزة في الإبادة الجماعية التي أيقظت ضمير العالم في مشارق الأرض ومغاربها، ومنها أيضاً الجهد السعودي الفرنسي؛ وهو جهد ديبلوماسي كثيف أوصل إلى اعترافات متواصلة من عواصم غربية وازنة بالدولة الفلسطينية. أهم ما فعلته حرب السنتين من الناحية الفلسطينية أنها دوّلت القضية من جهة، وعزلت إسرائيل سياسياً من جهة أخرى، وكل ذلك معنوياً.
ومن المحتمل بعد الاتفاق الأوليّ أن توضع خطة للتنمية الاقتصادية لإعمار غزة، بمشاركة خبراء ساهموا في ولادة بعض المدن الحديثة المزدهرة في الشرق الأوسط. وقد قدمت مجموعة من الاقتراحات المدروسة والأفكار التنموية المثيرة، سوف يتم النظر فيها، على رأسها الحوكمة لجذب وتسهيل هذه الاستثمارات، التي ستخلق فرص العمل في غزة، وكذلك في الضفة الغربية.
هذا الاتفاق، الذي عقد يوم الخميس الماضي، هو مجرد بداية، وذو جدول زمني قد يطول، ولكنه بالضرورة سوف يطلق ديناميات في الداخل الإسرائيلي وفي الفضاء الفلسطيني أيضاً تغير ما عرف حتى الآن من سياسات.
في الفضاء الفلسطيني تعب العرب ومناصرو القضية الفلسطينية من محاولات عديدة لرأب الصدع بين القوى الفلسطينية المختلفة، وقد اجتمعوا في هذا القرن فقط (القرن الحادي والعشرين) في اثنين وعشرين اجتماعاً. في المرتين الأخيرتين واحدة في الجزائر، وأخرى في بكين على بعد عشرات الآلاف من الكيلومترات. وقيل إنهم اتفقوا، وهم في الحقيقة لم يتفقوا.
حجر الزاوية لقيام دولة فلسطينية هي وحدة الفلسطينيين, والمزايدات بين الفصائل قاتلة للقضية الفلسطينية، وقد فعلت هذه المزايدات فعلها في استمرار نزيف الدم الفلسطيني. أما التفاعلات الأخرى التي سوف تحدث فهي في إسرائيل، حيث قامت الحرب بجمع اللحمة الإسرائيلية بمختلف اجتهاداتها السياسية، فيما بعد وقف الحرب، قد تنطلق الكثير من التساؤلات الداخلية بين القوى الإسرائيلية المختلفة، وربما تنتج تياراً جديداً من الإسرائيليين، يميلون إلى شيء من السلام، بعد أن خاضت إسرائيل أطول حرب تعرفها منذ قيامها، أي حرب السنتين التي بدأت في 7-10-1923 وانتهت في 8 أكتوبر 2025.
هذه الحرب لها مفاعيلها في النفسية الإسرائيلية، وقد بدأت أصوات تعلوا بأن حلّ مشكلة الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية لن يتم من خلال الحروب، ولا بدّ من تفاوض يؤدي الى دولة فلسطينية.
على المقلب الآخر لم يعد لإيران وأذرعها المختلفة حجج للتدخل في الصراع العربي الإسرائيلي، لأنه قد وضع على سكة الحل، وبالتالي فإن حجج "حزب الله" وحجج الحوثي في اليمن، لن تكون قابلة للتسويق لدى الرأي العام العالمي والإقليمي.
نحن أمام مرحلة تاريخية غير مسبوقة، ويتعين على الأطراف المختلفة التفكير بجدية ومنهجية لدفع أشرعة هذه المنطقة إلى التنمية والسلام. كذلك، على السردية الفلسطينية أن تخلق من خلال قصص واقعية لأهل غزة قصة "الإبادة" كما خلقت الصهيونية الدينية قصة "الهولوكوست"!