سياسة التّوازن... القصر المغربي يصوغُ إصلاحاً هادئاً ومستداماً!

كنت حينها في مدينة فاس، ما زلت أتذكر المشهد كأنه حاضرٌ أمامي الآن. جالسٌ في المقعد الأمامي لسيارة الأجرة والمذياع يعمل، وإذا بخطاب يعلنُ عنه للملك محمد السادس، 9 آذار/ مارس 2011، تحدث فيه بصراحة عن أهمية إجراء إصلاحات حقيقية في العمل السياسي ومؤسسات الدولة، وضرورة تلبية حاجات المواطنين وتحقيق طموحاتهم. على إثر ذلك تمت تعديلات دستورية جنبت المغرب الانزلاق في متاهات العنف والاضطرابات التي وقعت فيها دول عربية أخرى.
لقد كان "القصر" مبادراً، واتخذ خطوات استباقية، عرف كيف يكون قريباً من نبض المواطنين، واستفاد من محبة الشعب لملكه، والشرعية التاريخية التي يتكئ عليها، بوصفه حامي التراب المغربي ورمز وحدة الدولة، ودفع بذلك المؤسسات العامة نحو تطوير آليات عملها، وتداول السلطة بين الأحزاب. في الوقت نفسه بقي "الملك" فوق التباينات الحزبية، بوصفه الراعي والحامي لكيان الدولة وديمومتها.
هذه اللحظة التاريخية استعدتها وأنا أشاهد الملك محمد السادس يطلُ على المواطنين من شرفة "البرلمان" في العاصمة الرباط، قُبيل الخطاب الذي ألقاه في 10 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، مقدماً رؤيته لكيفية إدارة التطوير السياسي من داخل معادلة دقيقة تجمع بين الإصلاح والاستقرار، من دون التدخل في تفاصيل عمل الحكومة. فالنظام السياسي المغربي منذ دستور عام 2011 يقوم على توزيع وظيفي واضح، من خلاله تدير الحكومة العمل اليومي عبر وزاراتها المختلفة، بينما يضبط "القصر" الاتجاه العام ويضمن التوازن بين المؤسسات. في هذا السياق، حمل الخطاب توجيهاً عملياً حينما قال الملك "ندعوكم إلى تكريس السنة الأخيرة للعمل بروح الجدية والمسؤولية، لاستكمال المخططات التشريعية وتنفيذ البرامج والمشاريع المفتوحة".
ركز الخطاب الملكي أيضاً على مفهوم "العدالة الاجتماعية" باعتباره المعيار الحقيقي لنجاح الدولة، إذ شدد على أن "العدالة الاجتماعية ومحاربة الفوارق المجالية ليست مجرد شعار فارغ، أو أولوية مرحلية، بل توجه استراتيجي، ورهان مصيري ينبغي أن يحكم مختلف السياسات التنموية"، معتبراً أن "مستوى التنمية المحلية هو المرآة التي تعكس بصدق مدى تقدم المغرب الصاعد والمتضامن". أي أن الأداء الحكومي إذا لم تكن له نتائج قابلة للقياس، فذلك سيعني أن البرامج لم تحقق مستهدفاتها.
برغم النبرة الهادئة التي اتسم بها خطاب الملك محمد السادس، إلا أن من يتأمل في طياته يلحظ أنه لامس مفاصل تعني حياة المواطنين مباشرة، حينما أكد أن "من غير المقبول التهاون في نجاعة الاستثمار العمومي ومردوديته"، داعياً إلى "محاربة الممارسات التي تضيع الوقت والجهد والإمكانات". هذا النقد الصريح يكشف عن رغبة في تحويل الإدارة العامة من جهاز تنفيذي روتيني، إلى منظومة قائمة على الكفاءة والإنجاز والمساءلة.
في البعد الوطني الشامل، حدد الخطاب ثلاث أولويات عملية "إعطاء عناية خاصة للمناطق الأكثر هشاشة ويخاصة مناطق الجبال والواحات" و"التفعيل الأمثل لآليات التنمية المستدامة للسواحل الوطنية"، إضافة لـ"توسيع نطاق برنامج المراكز القروية الناشئة". هذه النقاط يرادُ منها تحقيق التنمية المتوازنة، وعدم ترك المناطق الأكثر "هشاشة" عرضة للإهمال!
"الخطاب الملكي" أكد أن "التواصل مع المواطنين ليس مسؤولية الحكومة وحدها، بل مسؤولية الجميع، وفي مقدمتهم البرلمانيون والأحزاب ووسائل الإعلام"، لأن هذا التواصل الدائم يمنع تفاقم المشكلات، ويجعل الجهات المعنية على دراية بالحاجات الأكثر إلحاحاً لدى المواطنين في الصحة والتعليم والسكن والعمل والأجور؛ ومن خلال هذا التواصل الفعال توضع سياسات استباقية وخطط متوسطة المدى، وفي ذلك فائدة مهمة تحد من "السخط" الذي قد ينتاب بعض الشرائح، ولذا يعمل الملك محمد السادس على دفع "الحكومة" إلى مزيد من الفاعلية والاستجابة السريعة والحكيمة!