لبنان وبلورة استراتيجية لما بعد غزة

رمّمت السلطة بعض هيبتها في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء وقد أصيبت عميقاً بالتحدي الذي لا يزال "حزب الله" يرفعه في وجه الدولة ولو أنه يحاول الاستثمار في التمييز بين موقع رئاسة الحكومة واستسهال استهدافه وبين موقع كل من رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش. يثير هذا التحدي والاستقواء على الدولة ومحاولة إضعاف مظاهرها تساؤلات عما يريده الحزب في الوقت الذي بات يتلطى تحت سقفها من أجل إعادة الإعمار بعدما تسبب بالكوارث للبنان وللجنوب خاصة بسبب الحرب التي بدأها ضد إسرائيل، كما من أجل استعادة السيادة من الاحتلال الإسرائيلي. وهذا يبدو مناقضاً في رأي مراقبين في الوقت الذي يريد فيه الحزب من الدولة مواجهة إسرائيل فيما يستمر في الاستهانة بها وتحديها وفي الوقت الذي لا يزال يجاهر فيه بإعادة تنظيم نفسه على نحو يخشى كثر أن يشكل استدعاءً لإسرائيل لاستكمال ما كانت بدأته. في هذه النقطة بالذات وفي ظل اعتقاد كثر أن إسرائيل لن تلجأ إلى التصعيد في لبنان، فإن استمرار استهدافاتها الأخيرة توازياً مع انطلاق مسار إنهاء الحرب في غزة لا ينذر بذلك فيما تحذر مصادر ديبلوماسية من مغبة قراءة إسرائيل على نحو خاطئ مرة أخرى من جانب إيران والحزب خصوصاً أن إسرائيل لن تفوّت وفق ما يعتقد الفرصة التاريخية التي لا تزال متاحة لها للقضاء على الحزب وربما أيضاً ضرب إيران.
الاستراتيجية التي يعتمدها الحزب بتحدّي الدولة والسعي إلى عرقلة إعادة بنائها ترى هذه المصادر أنه يستند إلى قاعدة مماثلة لتلك التي يعتمدها رئيس الوزراء الإسرائيلي بالهروب إلى البقاء في السلطة من أجل حماية نفسه، وهو الأسلوب الذي يعتمده الحزب من أجل عدم تسجيل تراجع هيبته وقوته أمام الداخل اللبناني وإظهار أنه لا يزال يملك القرار للحسم وفرض إرادته على اللبنانيين. هذا من جهة. ومن جهة أخرى يعتقد البعض من الديبلوماسيين السابقين أن الحزب في استدراجه لإسرائيل لاستكمال استهدافاتها ليس له بل للبنان ككل أن يستدرج الأفرقاء الآخرين إلى موقع الضعف الذي بات عليه فيسهل عليه التفاوض مع أفرقاء الداخل على إعادة توزيع السلطة وطرح مطالب لا يبدو أنها واردة اليوم فيما يطمح إلى مكاسب في السلطة تعوّض خسارته الاستباقية بسلاحه. وفي هذا الإطار يسجّل قصور أهل السلطة عن مصارحة الحزب علناً أمام بيئته وأمام اللبنانيين باعتبار أنه يدرك هذه الأمور ضمناً ولكنه يزايد على الدولة من أنه ما دام يعلن تمسكه بسلاحه ويمتنع عن تسليمه للدولة ويرفع التحدي بإعادة بناء نفسه، فإنه يحول مع استمرار المسيّرات الإسرائيلية في الجنوب أو سواه من المناطق دون إعادة الإعمار أو الاستثمار مهما يكن حجم أو طبيعة المؤتمرات التي تقام من أجل ذلك. فعلى رغم جهود الدولة في هذا الإطار، يخشى كثر أن مؤتمرات الدعم أو الاستثمار قد تحرق أوراقاً ثمينة في غير توقيتها أو ظروفها الصحيحة ولا سيما أن لا أفق واضحاً لطبيعة الواقع الأمني أو السياسي في البلد.
وهذه النقطة بالذات تثير وجهاً آخر لقصور الدولة يسجله هؤلاء أيضاً في ظل التطلع من الخارج كما من الداخل لأي استراتيجية للبنان ما بعد إنهاء الحرب في غزة متى انطلق هذا المسار، إذ مر وقت على انطلاق السلطة الجديدة على نحو لم يعد يتيح التسامح مع غياب المبادرات أو استمرار الركون إلى الأساليب السابقة في الحكم التي عهدها لبنان في الأعوام السابقة معززة بوجود مقاربات مختلفة في الحكم ومعبّرة عن انقسامات لا تسمح الظروف أو واقع لبنان بها إطلاقاً في هذه المرحلة. فمع أن هناك اقتناعاً سائداً في أوساط عدة بأن انطلاق ترتيب الملفات الإقليمية لا بد من أنه سيصل إلى لبنان في مرحلة ما بعد غزة وعلى الأرجح بعد سوريا على رغم الوضع الخطر والمقلق فيها ربما يثير هذا الأمر بعض الاطمئنان، ولكن التساؤلات تثار عما إن كان لبنان هو الذي سيضع تصوّره للأمور أم ينتظر أن يضع الآخرون تصوّرهم للبنان ومن يمكن أن يساند هذا الأخير، وكيف يجري العمل أو هل يجري العمل مع هذه الدول المساندة على ذلك أم لا؟ إذ ليس خافياً أن اليوم التالي لغزة، إذا نجح مسار وقف النار أم لا، يشغل كثيرين ممّن يخافون استمرار ربط لبنان من جانب الحزب بإيران واحتمال تعرّضه للاستهداف نتيجة لذلك أو بسبب الحزب فحسب، ولا سيما في ظل عدم الارتياح والبعض يقول الاستياء من تراجع الدينامية التي تم التعويل عليها في الأشهر السابقة وإتاحتها المجال أمام خيبات أمل متعددة لا تخفيها بعض العواصم المؤثرة.