مآسي الحرب على الإرهاب في الساحل
تُخفي الحرب على الإرهاب الدائرة في منطقة الساحل الأفريقي منذ قرابة 15 عاماً الكثير من الجروح والآلام. مشاهدُ المجازر البشعة في حق المدنيين العزل، الواردة قبل أيام من بوركينا فاسو، تكشف لنا جانباً من الحرب العبثية التي تدور رحاها هناك.
لم تكن المجازر الأخيرة في قريتي “كوكا” و سولينزو” في بوركينا فاسو مجرد حادثة عابرة في صراع معقد، بل كانت صرخة في وجه الضمير العالمي الأعمى والأصم.
فهذه ليست المرة الأولى التي يقع فيها المدنيون العزل ضحايا الحرب على الإرهاب في الساحل، لكن الجديد هو أن هذه الجرائم جرى توثيقها بالصوت والصورة، وانتشرت على نطاق واسع في وسائل التواصل الاجتماعي، مما ساهم في تأجيج خطاب الكراهية، واستمرار دوامة العنف العرقي.
في مشاهد مروعة، جرى تقييد النساء والأطفال وكبار السن، وتعذيبهم وتصفيتهم بوحشية، وسط ضحكات ساخرة من عناصر ميليشيات مدعومة من الجيش البوركينابي، نفذت الجريمة بدافع عرقي لم تبذل فيه أي جهد لإخفائه، وبدت كأنها تستعرض وحشيتها أمام الكاميرات.
ولعل أكثر المشاهد ألماً يعود إلى امرأة تنتمي لعرقية الفولاني تعرضت للتعذيب وبدت عاجزة عن تحريك أطرافها، بينما طفلها الرضيع ممدد بالقرب منها.
كان مصور الفيديو يسألها بتهكم: “هل تعتقدين أن الفولان سيحكمون بوركينا فاسو؟” فكانت ترد عليه بصوت خافت: “لا أعرف أي شيء عما تقول”.
لفظت المرأة أنفاسها، وغادر أفراد الميليشيات المكان وهم يحملون معهم الرضيع!
لم تترك هذه المشاهد مجالاً للشك إزاء حقيقة ما يجري هناك. فالأمر لم يعد مجرد “انتهاكات حقوقية”، بل تحول إلى إبادة ممنهجة تحت غطاء محاربة الإرهاب.
إن المجازر التي عرفتها بوركينا فاسو أخيراً ليست الأولى، وربما لن تكون الأخيرة. ففي شباط / فبراير 2024، نشرت صور ومقاطع فيديو لمجازر ضد المدنيين ارتكبها الجيش البوركينابي. وفي أيار / مايو عاد الجيش ليرتكب مجازر ضد المدنيين، وكانت حجته هي تعاون هؤلاء مع الإرهابيين، فقتل بدم بارد أكثر من 200 مزارع.
القرى نفسها التي ضربها الجيش، عاد إليها تنظيم "القاعدة" في آب / أغسطس الماضي، وقتل 600 مدني. لكن تقارير كشفت لاحقاً أن الجيش أجبر هؤلاء المدنيين على حفر خندق خارج قريتهم، واتخذ منهم درعاً بشرية في مواجهة “القاعدة”.
من الواضح أن استهداف المدنيين في منطقة الساحل عموماً، وفي بوركينا فاسو على وجه الخصوص، يكشف نمطاً متكرراً من العنف الموجه ضد فئات محددة من المجتمع، وخصوصاً مجتمع الفولاني، أحد أعرق مجتمعات منطقة الساحل وغرب أفريقيا، والذي يُتهم ظلماً، حسب كثير من المراقبين، بالتواطؤ مع الجماعات الجهادية.
ورغم انتشار عرقية الفولاني في جميع دول المنطقة، إلا أنها توصف بكونها الأكثر تعرضاً للظلم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. وهو ما استغلته الجماعات الإرهابية، إلى جانب استغلالها ضعف الدولة وسلطتها، مما مكن تنظيم "القاعدة" خلال السنوات الأخيرة من استقطاب قيادات بارزة من الفولاني، مثل أمادو كوفا، زعيم جبهة تحرير ماسينا، الذي يمزج في خطابه بين أدبيات هذا التنظيم واستحضار مظالم المجتمع الفولاني، ليقنع مئات الشباب المنتمين له بالالتحاق به.
وتبعاً لتقارير وإحصاءات، يتضح أن مجتمع الفولاني هو الأكثر تضرراً من تنظيم "القاعدة" في مالي وبوركينا فاسو، في حين أن جيوش هذه الدول تتعامل مع الفولاني جميعاً على أنهم منخرطون في صفوف “القاعدة”، وتتم تصفيتهم من دون أي تحقيق أو محاكمة.
هذه الوضعية الصعبة لم تجد لها أي صدى في العالم؛ فحكومات الدول المعنية تلتزم الصمت وتكتفي بالدفاع عن جيوشها، وحظر أي جهة إعلامية أو حقوقية تسعى إلى كشف هذه المجازر أو التحقيق فيها.
أما المنظمات الإقليمية، فلا صوت لها، إذ لم يصدر عن الاتحاد الإفريقي أي إدانة رسمية، فيما تواصل المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا التجاهل التام لما يحدث. كما أن الأمم المتحدة، التي طالما رفعت شعار حماية المدنيين في مناطق النزاع، وكانت حتى سنوات قليلة حاضرة بقوة في منطقة الساحل، ولديها اطلاع تام على ما يحدث من فظائع ومجازر، اكتفت بمراقبة الوضع بصمت ثقيل.
لكن أكثر المؤسسات صمتاً، هي المحكمة الجنائية الدولية، التي لم تبادر حتى الآن إلى أي تحرك، رغم أن الجرائم المرتكبة تقع ضمن نطاق اختصاصها بشكل واضح.
إن ما يجري في بوركينا فاسو هو تعبير جلي عن انهيار مفهوم الدولة. فعندما تتورط مؤسسات يفترض أنها سيادية في عمليات قتل ممنهجة، وعندما يصبح التطهير العرقي سياسة فعلية، ويتحول الجيش إلى ميليشيا سياسية، فإن الحديث عن حكومة شرعية يصبح مجرد وهم.
يتحمل النقيب إبراهيم تراوري ورفاقه في الجيش مسؤولية مباشرة عما يحدث، سواء بصفتهم من أصدروا الأوامر، أو من سمحوا بحدوثها، أو من غضوا الطرف عنها. بيد أن المشكلة الأكبر لا تكمن في المسؤولين عن هذه المجازر فحسب، بل في البيئة الدولية التي تسمح لهم بالإفلات من العقاب. فالصمت الدولي لم يعد مجرد غياب للموقف، بل أصبح شكلاً من أشكال التواطؤ غير المباشر.
نبض