سوريا وروسيا... ذاكرة الحرب وصفحة المستقبل

لم يكن اللقاء بين الرئيس السوري أحمد الشرع ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، في موسكو حدثاً عابراً في روزنامة العلاقات الدولية، بل محطة حاسمة تختبر فيها سوريا الجديدة قدرتها على التعامل مع حليفٍ ساهم في ماضيها المدمّى، وتحديد شكل العلاقة معه في مستقبل تحاول فيه دمشق أن تنهض من رماد الحرب. فهل يمكن بناء شراكة متوازنة مع دولة كانت في صلب معادلة القصف والدعم العسكري للنظام السابق، وهل تحسن موسكو قراءة اللحظة الجديدة في سوريا؟
الواقع أن كثيرين من السوريين، وبخاصة أولئك الذين دفعوا أثماناً باهظة خلال الصراع، لا يزالون ينظرون إلى موسكو بعين الريبة. روسيا كانت، بحكم الواقع، شريكاً حاسماً في تثبيت النظام السابق. قاعدتا حميميم وطرطوس، وطائرات السوخوي، ومجلس الأمن، كلها كانت أدوات روسية في معادلة لم تكن عادلة في نظر ملايين السوريين. اليوم، مع خروج بشار الأسد من المشهد، هناك تساؤل مشروع: هل تنقلب روسيا إلى شريك لإعادة البناء، أم تستمر راعية لنفوذ طويل الأمد؟
السوريون ليسوا ساذجين. هم يعرفون أن إعادة إعمار بلد مدمر، مفكك، محاصر بالعقوبات، لا يمكن أن تتم بجهود داخلية فقط. التعاطي مع القوى الكبرى، وعلى رأسها روسيا والولايات المتحدة، يبدو قدراً لا مفر منه، وإنْ كان مرّ المذاق. والمفارقة أن سجل كلا القوتين في سوريا بعيد جداً عن صورة المنقذ. الولايات المتحدة لم تكن حمامة سلام، بل مارست سياسات داعمة لميليشيات انفصالية، وتحالفات غامضة، وأبقت على غموض استراتيجي زاد من فوضى الميدان.
إذاً، التعاطي مع روسيا اليوم لا يقوم على الامتنان، بل على الواقعية السياسية. روسيا موجودة، لها قواعد ونفوذ ومصالح، وتريد البقاء. أما سوريا الجديدة، فهي بحاجة إلى هوامش مناورة، إلى شراكة تنموية، إلى منافذ خارج الحصار، إلى ضامن دولي ولو موقت، يحقق التوازن أمام أطراف إقليمية ودولية ما زالت تنظر إلى سوريا بصفتها ساحة لا دولة.
روسيا تسعى أولاً إلى تثبيت نفوذها الاستراتيجي، القواعد العسكرية في المتوسط ليست ورقة موقتة، بل ركيزة في عقيدتها الأمنية. كما تسعى للاستفادة من عقود الإعمار والاستثمار في قطاعات الطاقة والموانئ والمعادن. الأهم، أن موسكو لا تريد أن تخسر سوريا الجديدة، بعد أن استثمرت كثيراً في سوريا القديمة.
أما سوريا، فهي تدرك أن شراكة ذكية مع روسيا يمكن أن تستخدم رافعة ديبلوماسية واقتصادية.
تريد دمشق الجديدة شريكاً لا وصياً، ومساعداً لا مملياً. وتريد أيضاً مراجعة عقود الإذعان التي وُقعت في لحظات ضعف تحت قصف الطيران الروسي. لكن هذه الإرادة تتطلب أدوات، مؤسسات تفاوضية قوية، وشرعية داخلية، واستقلالية في القرار. وهذه ما زالت في طور البناء.
فتح صفحة جديدة يتطلب شجاعة سياسية من الطرفين. من سوريا، أن تضع شروطها وتحمي سيادتها من دون القطيعة مع كل حليف ممكن. ومن روسيا، أن تفهم أن زمن التفويض الكامل قد انتهى، وأن الشعوب لا تنسى. الروس يملكون أدوات القوة، لكنهم يحتاجون إلى كسب الشرعية المعنوية مجدداً في الشارع السوري.
أما التحدي الأكبر، فهو في تحقيق التوازن، كيف يمكن لسوريا أن تستفيد من روسيا من دون أن تُستَغل؟ كيف يمكن لموسكو أن تبني مصالحها من دون أن تُثقل على مستقبل دولة تحاول النهوض من تحت الركام؟
يبقى القول، المسألة ليست في فتح صفحة جديدة فحسب، بل في كيفية كتابتها. هل تكون هذه الصفحة شراكة قائمة على المصالح المتبادلة أم امتداداً لمرحلة الوصاية؟ الإجابة ليست في موسكو وحدها، بل في دمشق أيضاً.
*باحث ومستشار سياسي سوري
-المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.