مجلس النواب أمام مسؤولية استقلال القضاء

*الدكتور شادي سعد
عميد كلية الحقوق في جامعة الحكمة
في 31 تموز 2025، أقرّ مجلس النواب اللبناني القانون المتعلق بتنظيم القضاء العدلي بعد سنوات طويلة من النقاشات. غير أن هذا القانون لم يسلك طريقه إلى الصدور والنشر والتنفيذ. ففي 5 أيلول 2025، أعاد رئيس الجمهورية جوزف عون القانون إلى مجلس النواب طالبا إعادة النظر فيه، ومستندا إلى المادة 57 من الدستور التي أعطت رئيس الجمهورية هذا الحق في أي قانون قبل إصداره.
لم تكن هذه الخطوة إجرائية عابرة، بل جاءت إعلانا واضحا عن وجود خلل بنيوي في القانون. فقد تضمّن المرسوم 1105، وموضوعه إعادة القانون المتعلق بتنظيم القضاء العدلي، ملاحظات تكشف عن تناقضات وثغر تقنية ولغوية لا يمكن التغاضي عنها. وفي موازاة ذلك، أصدر نادي قضاة لبنان مذكرة ألقت الضوء على مكامن الخلل من زاوية استقلال السلطة القضائية.
لم يعد السؤال اليوم هل كان يجب إقرار القانون أو لا؟ بل أي قانون نريد؟ هل نريد نصا يكرّس استقلال القضاء فعلاً ويعيد الثقة بالمؤسسات الدستورية، أو نكتفي بنص تجميلي جديد يُضاف إلى سلسلة نصوص جميلة في الشكل، معطلة في الجوهر؟
إنّ ردّ القانون لم يكن اعتراضا سياسيا، إذ أتى بتوافق سياسي، بل كان ممارسة دستورية سليمة، تهدف إلى تصحيح أخطاء مادية شوّهت النص، وتصويب مسار قانون يمس واحدة من أكثر السلطات حساسية في الدولة.
الردّ الرئاسي: مؤشرات الخلل البنيوي
من أبرز ما ورد في المرسوم الرئاسي ملاحظات تتعلق بتضارب الشروط والدرجات، إذ نصت المادة الثانية على الدرجة 16لعضوية المجلس الأعلى للقضاء، في حين رفعت المادة 81 الشرط إلى الدرجة 18 للرئيس الأول لمحكمة التمييز، فيما خفّضت المادة 109 هذا الشرط إلى الدرجة 13لرئيس معهد الدروس القضائية. كذلك نجد تضاربا في مدة الولاية بين خمس سنوات غير قابلة للتجديد في موضع، وأربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة في موضع آخر. أما المادة الثالثة، فقد سمحت لثلث أعضاء المجلس، ومن ثم لثلث عدد القضاة العاملين بالدعوة إلى الاجتماع إذا تخلّف الرئيس الأول، من دون تحديد مهلة واضحة لهذا التخلّف، ما يفتح الباب أمام شلل مؤسسي.
إلى ذلك، برزت أخطاء عملية، منها أن المجلس الأعلى للقضاء يمكن أن يدعو النائب العام التمييزي، بينما هو فعليا نائب رئيس المجلس، ويكون حاضرا جلساته، وأخطاء مادية ولغوية عديدة تخطى عددها الـ14، من بينها استبدال كلمة "مجلس" بـ"مكتب" ديوان المحاسبة، وإسقاط مفردات جوهرية مثل كلمة "القضائية" في توصيف الهيئة العليا للتأديب، وعطف مواد على غير وجهها الصحيح أو على ذاتها، وإغفال تحديد صلاحيات واضحة لبعض المراكز. وهذه كلها ليست تفاصيل عابرة، بل مسائل تمس صميم سلامة البنية القانونية للنص.
نادي القضاة: الاستقلالية في الميزان
أما ملاحظات نادي القضاة فقد وصفت رفع عدد الأعضاء الحكميين إلى ٤ يعينون بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بأنه ضرب للاستقلالية وتدخل للسلطة السياسية في تكوين المجلس، كما عرضت غياب الاستقلال المالي والإداري، إذ تبقى الموازنة بيد وزارة العدل، ما يبقي القضاء رهينة السلطة التنفيذية. وناقشت الصلاحيات الواسعة الممنوحة للنائب العام التمييزي، ولا سيما في المادة 42 التي تجيز له كف التعقبات بلا مسوّغ، بما يتيح تدخلاً مباشرا في مسار العدالة ويمنح النائب العام لدى محكمة التمييز استنسابية مطلقة قد يساء استخدامها. كذلك انتقد النادي تقييد حرية التعبير لدى القضاة عبر فرض إعلام مسبق قبل أي ظهور إعلامي، وهو ما يرقى إلى رقابة غير دستورية، إضافة إلى تحويل نظام الملاحظات الإدارية إلى أداة ضغط خارج الأطر التأديبية الطبيعية.
في الواقع، ما يظهر من خلال الرد الرئاسي وموقف نادي القضاة ومواقف العديد من الجهات المعنية في الملف هو أزمة مزدوجة: أزمة في الصياغة القانونية نفسها، وأزمة في التوجه التشريعي الذي لا يمنح القضاء استقلاله الحقيقي. إن التصحيح لا يمكن أن يكون تجميليا، بل يجب أن يشمل إعادة النظر في الفلسفة التي يقوم عليها هذا القانون وفي موقع القضاء ضمن البنية الدستورية اللبنانية.
في هذا النقاش الوطني، لم تكتف جامعة الحكمة عبر كلية الحقوق بالمراقبة، بل أدّت دورا من خلال مشاركتها في منتدى العدالة وتنظيم مؤتمر تناول بعمق مفهوم استقلال القضاء وتوازن السلطات، برعاية وزير العدل عادل نصّار وبمشاركة رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود وعدد كبير من الوزراء السابقين والقضاة والباحثين والخبراء القانونيين، حيث تركزت المداخلات على توحيد النصوص وإزالة التناقضات، وتحديد مهل دقيقة لتفادي الشلل، وضبط صلاحيات النيابة العامة التمييزية، وإقرار موازنة مستقلة للقضاء، وحماية حرية التعبير للقضاة من أي رقابة مسبقة، وإشراك قضاة وأكاديميين في لجنة صياغة دقيقة ومحايدة.
دور الرئيس ومجلس الوزراء
لكن ما يستوجب التوقف عنده، يتعدّى كل النقاط التقنية، على أهميتها. فهناك مسائل محورية لا يمكن مجلس النواب تجاهلها. أولاها، صلاحيات رئيس الجمهورية في التشكيلات القضائية. إن النص الذي يجعل التشكيلات نافذة حكماً بعد مرور 30 يومًا على إحالتها من دون توقيع الرئيس، يشكل مسًا بصلاحياته الدستورية أو بما تبقى منها. هذه التشكيلات تدخل في فئة المراسيم العادية التي تختلف عن المراسيم المتخذة في مجلس الوزراء، والتي لا يؤدي امتناع الرئيس عن توقيعها إلى نشرها حكما. في المقابل، يُعدّ توقيع رئيس الجمهورية في المراسيم العادية ركنا أساسيا في نفاذها. وفي هذه الفئة من المراسيم لا يمكن أي جهة أو سلطة أو مؤسسة إلزام الرئيس التوقيع تحت طائلة النفاذ، وهو غير خاضع في شأنها لأي مهلة. فكيف يقيد القانون الرئيس بمهلة خلافا لأحكام الدستور؟ إضعاف دور الرئيس أو الالتفاف عليه لا يمس مقام الرئاسة فقط، بل يضرب التوازن الدستوري برمّته. هنا يجب أن يكون الخيار واضحا وصريحا: إما الحفاظ على دور فاعل وحقيقي لرئيس الجمهورية في مسار التشكيلات القضائية بما يتلاءم مع الدستور، وإما الاستغناء الصريح عن هذا الدور عبر تعديل واضح يستغني عن صيغة المرسوم أصلا في اصدار التشكيلات. أما الصيغة الحالية فتؤدي إلى ازدواجية وتفتح الباب أمام أزمات مؤسساتية محتومة وتقوي دور مجلس الوزراء دون الرئيس.
النقطة الثانية تتعلق بدور السلطة التنفيذية في تشكيل المجلس الأعلى للقضاء. والسؤال الجوهري: هل نُبقي دورا للسلطة التنفيذية في تشكيل المجلس الأعلى للقضاء حفاظا على توازن السلطات ومنع قيام "حكومة قضاة"، أو نمنح القضاء استقلالا كاملاً ليشكّل مجلسه ويديره ويحاسب نفسه داخليا؟ لا يمكن ترك الجواب معلقا في منطقة رمادية. المطلوب حسم الاتجاه: إما نموذج يوازن بين السلطات مع ضمانات حقيقية، وإما نموذج استقلال قضائي مؤسسي كامل مصحوب بآليات محاسبة شفافة. إن ترك المسألة مفتوحة يعني تكريس حالة من عدم الاستقرار الدستوري المؤسسي.
أما القانون موضوع النقاش فقد ترك لمجلس الوزراء صلاحية تعيين ٤ من الأعضاء على نحو يبرر التساؤل: هل أتى باستقلال حقيقي للقضاء؟ كما يجدر التساؤل لماذا جاء القانون كريما في تدخل مجلس الوزراء في التعيينات وقاسيا ورافضا في منع تدخل الرئيس، على الرغم من أن رئيس الجمهورية هو رمز وحدة الوطن ورئيس الدولة بحسب المادة ٤٩ من الدستور؟
إن مسؤولية مجلس النواب في هذه اللحظة لا تختصر بالتصويت على نصّ قانوني جديد، بل تتعلق بمستقبل العدالة نفسها في لبنان. الرد الرئاسي، والموقف القضائي، والمساهمة الأكاديمية من الجامعات، جميعها منحت النواب فرصة ثانية نادرة لتصحيح المسار. استقلال القضاء ليس شعارا ولا مطلبا فئويا، بل الضمان الأول لعدالة متساوية، والشرط الأساسي لإعادة بناء الثقة بين اللبنانيين ودولتهم. فقاضٍ خائف لا يحمي حقا، وقضاء مرتهن لا يصنع عدالة.
فرصة التصحيح الأخيرة
النواب اليوم أمام خيار واضح: إما تبني قانون عصري يكرّس استقلال القضاء ويصون التوازن بين السلطات، وإما العودة إلى دائرة المراوحة التي جعلت الناس تفقد الثقة بالعدالة. وفي لحظات الانهيار الوطني، حيث الأمل معقود على مرحلة جديدة من الإصلاح، يصبح استقلال القضاء آخر خط دفاع عن فكرة الدولة نفسها. فالقضاة لا يقبلون باستقلالية تقوم على مخالفة دستورية، والأجدر أن يفتح النقاش حول إعطاء مجلس القضاء الشخصية المعنوية، ولننتقل إلى استقلالية تامة وناجزة. اللبنانيون الذين أنهكتهم الأزمات ينتظرون من ممثليهم قرارا شجاعا يعيد إليهم الثقة بأن القانون لا يُكتب فقط، بل يُطبّق بعدل واستقلال، مجلس النواب أمام مسؤولية استقلال القضاء… والوقت لا يرحم.