الشرع في موسكو… وروسيا تُعيد تعريف وجودها في سوريا

زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى موسكو، وهي الأولى منذ توليه الرئاسة عقب فرار بشار الأسد نهاية عام 2024، تفتح فصلاً جديداً من العلاقات الروسية – السورية، عنوانه الأبرز، موسكو باقية، ولكن بوجه اقتصادي.
هذه الزيارة تأتي بعد سلسلة من الاتصالات والاجتماعات، كان أبرزها لقاء مبعوث الرئيس الروسي السابق ميخائيل بوغدانوف بالشرع في كانون الثاني/ يناير 2025، واتصال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين به في شباط/ فبراير، ثم اللقاء في تركيا بين وزيري خارجية روسيا وسوريا، سيرغي لافروف و أسعد الشيباني في نيسان/ أبريل، وصولاً إلى زيارات متبادلة بين وفود عسكرية واقتصادية في موسكو ودمشق خلال الصيف الماضي.
منذ سقوط الأسد، تغيّر المشهد السوري جذرياً. لم تعد روسيا قوة عسكرية تُملي شروطها من قاعدة حميميم، بل أصبحت لاعباً يبحث عن نفوذٍ مستدام عبر الاقتصاد والطاقة وإعادة الإعمار.
موسكو تدرك أن الحقبة التي كان فيها النفوذ يُقاس بعدد الصواريخ الموجّهة من المتوسط إلى الداخل السوري قد انتهت، وأن البقاء في سوريا اليوم يمر عبر الاقتصاد والشركات لا عبر المدافع والطائرات.
اللقاء المرتقب بين بوتين والشرع يحمل ملفات شائكة، تبدأ من مستقبل القاعدتين الروسيتين في طرطوس وحميميم، ولا تنتهي عند ملف الديون الروسية والمشاريع الاقتصادية.
تشير تسريبات من موسكو إلى أن الكرملين يسعى لتعديل طبيعة الوجود العسكري في طرطوس، ليأخذ طابعاً إنسانياً، أي بوابة لوجستية للعمليات الروسية في أفريقيا، بينما يُطرح نموذج الإدارة المشتركة لقاعدة حميميم مع تقليص القوات الروسية تدريجياً. في المقابل، تطلب دمشق توسيع انتشار الدوريات الروسية في الجنوب، في محاولة لخلق توازن إقليمي جديد بعد سنوات من الفراغ والتدخلات المتشابكة.
اقتصادياً، يبدو أن روسيا تريد أن تحول سوريا إلى ساحة استثمار آمنة نسبياً، تضمن لها موطئ قدم في شرق المتوسط في زمن العقوبات الغربية.
الحديث في أروقة القرار الروسي يدور حول حزمة مشاريع في الطاقة والبنى التحتية والمرافئ، تُقدم تحت عنوان المشاريع الإنسانية، لكنها في جوهرها اقتصادية بحتة.
الشرع من جانبه يدرك أن بقاء العلاقة مع موسكو ضرورة لا خيار، خاصة في ظل تحدّيات داخلية وخارجية.
أما ملف بشار الأسد والمقربين منه المقيمين في روسيا فيبدو الأكثر حساسية. فبينما نقلت مصادر ديبلوماسية أن موسكو لن تسلّم الأسد لأنها أعطت كلمتها، تؤكّد مصادر أخرى أن القيادة الروسية أبلغت رسمياً الحكومة السورية رغبتها في تسوية هذا الملف، بما في ذلك إمكانية محاكمة الأسد في إطار قانوني دولي. وفي هذا السياق، تسرّبت مقولة لأحد المسؤولين السوريين، يمكن أن يموت الأسد على الطريقة الروسية، في إشارة إلى تسوية غامضة تحفظ ماء الوجه للطرفين.
التحرك الروسي الأخير لا يقتصر على دمشق. فقد اتصل بوتين مرتين برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال الأسابيع الماضية لمناقشة الوضع في سوريا، ودور موسكو كوسيط محتمل بين دمشق وتل أبيب. هذه الاتصالات توحي بأن روسيا تريد إعادة تموضعها في الشرق الأوسط من جديد، ولكن بثوب ديبلوماسي واقتصادي هذه المرة، بعد أن أثبتت الحرب الأوكرانية محدودية النفوذ العسكريّ وحده.
يبقى القول إن روسيا التي دخلت سوريا بالصواريخ عام 2015، تحاول اليوم أن تبقى فيها عبر الاقتصاد والموانئ. ودمشق الجديدة تسعى اليوم إلى شراكة متوازنة تضمن استقلال القرار السوري ولو جزئياً. الزيارة الحالية ليست مجرد بروتوكول بل اختبار حقيقي لعلاقةٍ تحاول أن تتكيّف مع واقعٍ جديد لا يشبه ما قبله، لا في موسكو ولا في دمشق.
*باحث ومستشار سياسي
-المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.