روسيا وتشكيل نظام عالمي أكثر عدلاً: من العقلانية إلى التعدّدية القطبية

د. خالد العزي
في سعيها لمواءمة أفكارها حول العدالة مع آراء الأغلبية، نجحت روسيا في السنوات الأخيرة في تجميع مجموعة من المفكرين من مختلف أنحاء العالم. وأشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه في مؤتمر نادي فالداي السنوي الرابع عشر بتاريخ 13 شباط/ فبراير 2025، إلى أن السياسة الدولية الحديثة هي مجال من "البحث والتلمس" المستمر في ظروف غير مؤكدة.
ورغم محاولات الغرب، بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها، لبناء نظام عالمي يخضع لهيمنتهم، باءت هذه المحاولات بالفشل بسبب تعقيدات العلاقات الدولية وتعدّد المصالح. ومع ذلك، يُطرح السؤال: هل يشير هذا الفشل إلى ظهور نظام عالمي أكثر عدلاً؟ وهل يمكن لروسيا أن تقدم نموذجاً جديداً من التعددية القطبية يعكس تطلعات القوى الكبرى في المستقبل؟ ويبقى السؤال الأهم: هل يشير فشل النظام الأحادي بقيادة الغرب إلى ظهور نظام عالمي أكثر عدلاً؟ وهل يمكن لروسيا، في ضوء تحركاتها، تقديم نموذج للتعددية القطبية يعكس تطلعات القوى الكبرى نحو عالم أكثر توازناً؟
من خلال ديبلوماسيتها، تبدو روسيا مرشحة لبناء نظام دولي يعكس تنوّع المصالح والقوى، ما قد يؤدي إلى عالم أكثر عدالة ومساواة.
التعددية القطبية: تحديات النظام الأحادي
كان فشل محاولات الغرب في فرض هيمنته على النظام الدولي منطقياً بالنظر إلى تزايد التحديات الاقتصادية والسياسية التي يواجهها العالم. في السابق، ألهمت فكرة النظام الذي يخضع للولايات المتحدة آمالاً وتطلعات متعددة حول كيفية إعادة تشكيل موازين القوى، لكن الواقع أظهر أن هذه المحاولات لم تكن مستدامة. اليوم، يبرز مصطلح "التعددية القطبية" كأفق جديد يعكس التغيرات المتسارعة في النظام العالمي. ففي الوقت الذي يثير فيه هذا التحول قلق البعض، يجد آخرون في ظهور هذا النظام الجديد فرصة لتحقيق العدالة في العلاقات الدولية.
ومع تزايد النقاش حول التعددية القطبية، بدأت الدول الكبرى ترى في قدرتها على تحديد مسارها نحو المستقبل بشكل مستقل قيمة أساسية. ففي غياب هذا الاستقلال، يمكن أن تظل الدول مجرد ورقة في أيدي القوى العالمية التي تحدد مصيرها. لذلك، تصبح القدرة على التفكير بشكل مستقل وتحقيق الأهداف السياسية دون تبعية أمراً بالغ الأهمية في بناء قوة سياسية واقتصادية.
روسيا وأهمية الحوار الفكري
من بين الأدوات الأساسية التي تستخدمها روسيا لتعزيز هذا المفهوم هو مؤتمر نادي فالداي السنوي، الذي أصبح منصة رئيسية للمفكرين من مختلف أنحاء العالم للتعبير عن أفكارهم بعيداً من تأثيرات القوى الغربية المهيمنة. يتيح هذا المؤتمر فرصة للمشاركين في السياسة الدولية وصنّاع القرار من الدول الأغلبية للتفاعل المباشر مع الرئيس الروسي وتبادل الرؤى حول التحديات الحالية.
هذه المنصة لا تقتصر على تبادل الآراء فقط، بل تؤدي إلى إعادة تشكيل الفكر السياسي العالمي. ففي وقت كانت فيه روسيا تعاني من ضعف مادي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فإنها الآن توجّه دفة النقاش العالمي بنحو أكثر استقلالية، ما يجعلها لاعباً رئيسياً في صياغة أفكار السياسة الدولية. وقد أدّت هذه المنصة دوراً مهماً في تجميع المفكرين من الصين والهند وأفريقيا والشرق الأوسط، ما يتيح لروسيا إمكانية توسيع آفاق الحوار الفكري.
التحديات والتفاؤل بالمستقبل
ما يعكسه هذا التوجه هو أمل روسيا في الحد من الهيمنة الفكرية التي كانت سائدة في العقدين الماضيين، والتي كانت تُفضي إلى فرض آراء محددة تُقيّد فكر الشعوب الأخرى. ففي ظل تزايد التنوّع الفكري في منتديات مثل فالداي، يظهر جلياً أن هذا التنوع هو ضمانة ضد هيمنة أي فكر واحد على باقي الأفكار. وبذلك، يتجسد الأمل في أن التعددية القطبية ستصبح واقعاً يتسم بالعدالة السياسية والاقتصادية.
التفاؤل بمستقبل التعددية القطبية يتجسد في رفض روسيا للهيمنة الغربية المستمرة. ففي الوقت الذي يسعى فيه الغرب للاستحواذ على أكبر قدر من الموارد والسلطة، تدعو روسيا الدول الكبرى إلى اتباع نهج براغماتي يعكس استدامة التعددية السياسية ويعزز من قدرة الدول على تحديد مساراتها دون ضغط خارجي.
وفي النهاية، يرى المراقبون أن تحولات السياسة العالمية التي يشهدها العالم اليوم ستكون أكثر مرونة وواقعية، بعيدة عن النموذج الأحادي الذي ساد في التسعينيات والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين.
- المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.