مفهوم حق تقرير المصير للشعوب وأهدافه

تبلورت فكرة حق تقرير المصير للشعوب منذ الثورة الأميركية في العام 1776، وتوضَّحت معالمه في إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي للعام 1789، ولحظته المعاهدات الدولية اللاحقة، لا سيما اتفاقية فرساي للعام 1919 التي أنشأت دولاً جديدة لشعوب كانت مستعمرة أو تقع تحت الوصاية، برغم أنها لم تكُن مُنصفة بالضرورة. لكن تأكيد المبدأ بعباراته الصريحة، جاء لاحقاً في الفقرة الثانية من المادة الأولى لميثاق الأمم المتحدة للعام 1945، وأصبح منذ ذلك الوقت حقاً دامغاً للشعوب، لا سيما منها التي تقع تحت سلطة الوصاية الخارجية، أو ترزح تحت نير الاستعمار وتتعرَّض للاضطهاد.
مبدأ حق تقرير المصير أعطي للشعوب، وليس للجماعات والطوائف، ولكن القانون الدولي فرض حماية لهذه الجماعات تكفل عدم التعرُّض لها، والحفاظ على حقها بالسلام وبالعيش بكرامة وبممارسة حياتها الطبيعية وبالمساواة والمواطنة، كذلك فرض احترام معتقداتها وتقاليدها الموروثة بما لا يتعارض مع النظام العام. ومفهوم "الشعب" يختلف عن مفهوم "الجماعة" فالأول يتكون من شرائح سكانية تنتمي إلى أرض، أو إقليم، لها تاريخ مشترك، وهي أنجزت عقداً اجتماعياً واحداً للعيش تحت سقف دولة واحدة، أو أنها تكوَّنت بالتقادُم كأمة تنتمي إلى وحدة عرقية أو ثقافيةٍ، وارتضت بالانتساب إلى كيانٍ سياسيٍ واحد، بينما الثانية عبارة عن مجموعات لها تقاليدها الخاصة وامتيازاتها العرقية أو اللغوية أو الدينية أو الجهوية.
حدد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 1514 للعام 1960 شروط الاعتداد بمبدأ حق تقرير المصير للشعوب، وأكد على أنه لا يمكن استخدام هذا المبدأ لتفتيت الدول القائمة، والهدف من القانون الدولي الحفاظ على الانتظام العام، وعدم إنتاج مشكلات تزيد من الاضطرابات والنزاعات في الأقاليم والدول. وإنشاء الدول لا يمكن أن يحصل إلا بإعلان صريح من عامة الشعب الذي يعيش في إقليمها الجغرافي، والاعتراف بهذه الدول المُولودة من قبل الأمم المتحدة ومن الدول الأخرى، شرط أساسي لممارسة دورها كشخصية دولية، ومن دون ذلك، لا يمكن إضفاء المشروعية على قرارات الدول المُنشأة، وبالتالي لا تسري على معاملة مواطنيها المفترضين القوانيين الدولية، لناحية احترام الجنسية وجوازات السفر، ولا تسجيل الأعمال السيادية التي تقوم بها في الأمم المتحدة، كشرط لإضفاء القبول العالمي بها.
هناك تجارب متعددة لإنشاء دول، أو أقاليم مستقلة، انطلاقاً من اعتبارات سياسية أو جهوية أو دينية، قامت بها مجموعات شعبية في مناطق جغرافية محددة، ولكنها لم تلق القبول الدولي، ولم يُعترف باستقلالها، رغم أن بعضها يمتلك دوائر حكم ذاتي كامل، ويمارس إدارة محلية كأمر واقع، ولكن غالبية هذه التجارب كانت مدعومة من دول كبرى استطاعت احتضان هذه التجارب وفرض حمايتها بالقوة، ولكنها فشلت في تسويقها دولياً، وهي أورثت سكان هذه المناطق شيئاً من الضياع لناحية المواطنة، ولناحية الحقوق، وما زال مواطنوها تابعين قانوناً للدول الراعية حتى الآن.
ويمكن ذكر مثال على هذه الوضعيات غير المستقرة، في تجربة "قبرص الشمالية" التي لم تحظَ منذ إعلانها عام 1974 باعتراف أي من الدول سوى تركيا، ومواطنوها لا يمكن أن يسافروا بجوازات سفر الدولة الهجينة، وكذلك هو حال "الجمهورية العربية الصحراوية" التي أعلنت استقلالها عن المغرب من جانب واحد في العام 1976، و"جمهورية دونتيسك الشعبية" شرق أوكرانيا التي أجرت استفتاء للإنفصال عن أوكرانيا في العام 2014.
لم تعترف الأمم المتحدة بمطالبة طائفة "السيخ" في البنجاب الهندية بالاستقلال، برغم إجماعهم على ذلك، وهؤلاء يتجاوز عددهم 22 مليوناً، وقرار الرفض كان مُعللاً كونهم مجموعة دينية وكانوا على الدوام جزءاً من الشعب الهندي، وليسوا شعباً مستقلاً، والمساحة الجغرافية التي يطالبون بالاستقلال داخلها؛ تضمّ مكونات أخرى من غير "السيخ". وحق تقرير المصير لا يمكن التسليم به للمجموعات الدينية أو العرقية، وإلا لتحولت أوروبا وإفريقيا وآسيا وأميركا إلى مئات الكيانات الصغيرة، وفي كل دولة من دول هذه القارات عشرات الإثنيات التي تحتفظ بخصوصيات لغوية وعرقية وقبلية وعشائرية وازنة.
أثير مبدأ "حق تقرير المصير" خلال هذه الفترة، بمناسبة الاضطرابات التي تحصل في سوريا، وهناك تجاوزات ارتكبتها قوات حكومية، أو أنها تحظى برعاية الحكومة، دفعت ببعض الأفراد من مكونات الشعب السوري، لاسيما من الموحدين الدروز في محافظة السويداء إلى المطالبة بالاستقلال عن سلطة الحكومة المركزية في دمشق، وانشاء كيانٍ خاص بها. وهناك بالمقابل تدخلات خارجية تستغل الوضع الشاذ للتلاعب ببعض المجموعات ودفعها نحو التمرُّد، لا سيما إسرائيل التي تضمُر لتنفيذ مشروع تفتيتي عدواني في سوريا وفي غيرها من الدول المحيطة بها، ولديها طموحات استيطانية وتوسعية خاصة من وراء هذا التوجُه، لا يتعلَّق بمصلحة الدروز على الإطلاق، ولو كان هذا الشعار صحيحاً! لماذا لا تسمح لدروز "إسرائيل" وهم بالفعل فلسطينيون منذ القِدم، بطلب الانفصال وإنشاء كيان خاص لهم. وسوريا تتألف من عدد كبير من المكونات الدينية والمذهبية والعشائرية والعرقية، فكيف لو طالب كل من هؤلاء بالانفصال؟
حق تقرير المصير مبدأ دولي عام أعطي للشعوب التي تعاني من كونها تقع تحت نير الاحتلال، وأبرز هؤلاء الشعب الفلسطيني بكل مكوناته، ولا يمكن أن يُعطى هذا الحق للمكونات الصغيرة التي لها أن تدافع عن نفسها بكل الوسائل إذا تعرَّضت للعدوان كما حصل منتصف شهر تموز/يوليو الماضي في السويداء جنوب سوريا، كما لها حق بطلب الحماية من الجهات العربية والدولية لرد أي عدوان عليها، ولكن سكان المحافظة – لاسيما الدروز - أشهروا منذ القِدم انتمائهم إلى الدولة السورية، وهم أحد مكوناتها الأساسية، وهذا يؤكد أن الموحدين المسلمين الدروز ليسوا قومية خاصة، ولا هُم شعباً مستقلاً ينتمون إلى جغرافيا محددة، بل عشيرة عربية معروفية منتشرة على أراضي 4 دول في المنطقة، وكانوا في الماضي في طليعة المكونات التي قاومت الغزوات والوصاية والاستعمار. وهوية الشعوب تأتي من ثقافتها وتراثها وتاريخها وتقاليدها المتوارثة، ولا تُحددها بعض القرارات التي تخفي مشاريع تُثير الالتباس، ولا أهواء مجموعة من الطامحين، لا سيما أن عدداً كبيراً من هؤلاء كانوا من أشدَّ المتمسكين بوحدة سوريا أيام نظامها السابق، واستفادوا من منافعه الجمَّة.
-المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.