هل من شبكة أمان للكنيسة الأرثوذكسية الانطاكية في زمن التحولات الجيوسياسية الكبرى؟

المحامي كارول سابا - باريس
يُحكى أنه بُعيد انتخابه في 17 تشرين الأول / أكتوبر 1978 الخليفة الـ 264 لبطرس على عرش كنيسة روما، دَعا البابا يوحنا بولس الثاني مجموعة من الشخصيات الدولية المؤثرة، إلى لقاء حواري بَعيد من الأضواء لاستشراف تحديّات اللحظة الدولية الصعبة لاحتكاك الصفائح التكتونية الجيوسياسية بين الشرق السوفياتي والغرب الأطلسي، وهو ما يُنبئ بالتعجيل في الديناميات التحولية التي لا تخلو من العنفية ومن عناصر القلق على المُستقبل.
قيادة كنسية
أدرك البابا البولوني أن اللحظة المِفصلية حافلة بالأخطار، تتطلب قيادة كنسية غير تقليدية ومنهجية عمل كنسي متعددة الأبعاد، لتُبصِر ما يجري في باطن الحاضِر، وتقرأ ما قد يحصل في الغد من تداعيات على الكنيسة لاستباقها، متخطية بذلك المنهجية الكنسية التقليدية التي تقرأ الواقع في نظارات الماضي ببلادة فكرية ومؤسساتية، تعوق قوننة المقاومة الكنسية وتسييل التوثب الكنسي إلى الأمام.
أمام هَول التحولات، أراد البابا أن يَسمع مِن تلك المجموعة النوعية المجتمعة تحت قبة الفاتيكان، قراءاتها الإستراتيجية للأخطار وكيفية استباقها وجبهها. أغلق عينيه ليسمع بهدوء وتركيز. وبعد المداخلات شَكرَ الحاضرين، وفاجأهم بسؤال عن ماهية عِبرَة اليوم في القراءات الليتورجية لذلك النهار. بعد صمتهم قال لهم إنها مقتبسة من كتابات بولس "رجاؤنا الوحيد يكمُن في صليب المسيح!". فأيقن الحضور أن البابا لقَّنهم درساً روحياًّ في تَخطِّي تضاريس التاريخ السياسي الدهري، بالبصيرة الإيمانية. فهُم بالرغم من خبراتهم، لم يَروا فيه القائد الكنسي الذي سيهدد القلعة الشيوعية، ولم يقرأوا في انتخابه، ذلك البُعد الإيمانِيّ لفِعل الله في التاريخ. هو لم يُنتخب مِن عَبَث، بل من مُراكمة خبرات، لكونه ظهَرَ مُنذ المجمع الفاتيكاني الثاني، حيث تألق ناطقا رسميا للوفد الأسقفي البولوني. ثم انتصب في ما بعد رئيس أساقفة كراكوفيا، راعيا وقائدا، للدفاع عن حقوق العمال البولونيين ضد السلطات الشيوعية. وهو أيضا البابا الآتي من وراء خطوط المُعسكر الحديدي، الذي تجرَّأ وعَمِلَ لإسقاط القلعة الشيوعية. الرب يُقَوْنِن خبراتنا ليضعها بتصرف الكنيسة في أزمنة المحنة.
من خبرته الأسقفية في بولونيا الشيوعية عَرَفَ البابا الوسيم أن لا مُهادنة، ولا مساكنة، ولا تطبيع ممكنا مع الأنظمة الشمولية التي تَكُنّ العداء للكنيسة، بالنص والعقيدة والفعل. وأدرك أن المُواجهة التراكمية آتية مع النظام الشمولي المُلحد. والمقاومة الكنسية تتطلب التسليح الإيماني، والخُلقي، والأخلاقي، والمجتمعي. فأي مهادنة أو تطبيع مع الأنظمة الشمولية العقائدية، يُفرِغان الكنيسة من مناعتها ويضربان صدقية شهادتها، فتعتقد هي أنها تفاوض كَنَدّ لهذه السلطة، فيما تكون الكنيسة في انكفاء، فتُحَجَّم وتموت، ولا يبقى منها سوى غلافها الشكلي.
مواجهة
أدرك أيضا ان المواجهة تتطلب تحضيرا نوعيا، غير تقليدي، إستراتيجيا وتكتيّا، وأن مسؤولية قيادة الكنيسة في زمن المحنة تتطلب عملا جماعيا تشارُكيا وتعاضديا على كل مستويات الكنيسة ومع كل الحلقات الفكرية والرعائية وعند النُخَب والمواهب، إكليريكية وعلمانية، وتتطلب قراءات استراتيجية فيها تمييز وبصيرة تذهب أبعد من قراءة لسردية الأحداث الآنيةً، نحو الغوص في عمق بطن مُحرِّكات التنين الكبير المُتعدد الرؤوس والأوجه والأضلع والذي يُهدِّد الكنيسة جسدا وروحا وبشارة.
فقراءته للمؤرخ الفرنسي الكبير فرديناند بروديل الذي هَندَسَ نظرية "تداخل أزمنة التاريخ" بعضها ببعض، كانت تُملي عليه ومن خلاله على الكنيسة، أن تربط مُحركات "الزمن الطويل" غير المرئية في بطن التاريخ، بمحركات "الزمن المُتوسِّط"، حيث عمليات تطبيع الأرض، والبشر والمجتمعات، انتهاء بمرحلة "الزمن القصير"، حيث تظهر الأحداث وتتوثب بُركانيّا وطوفانيا.
أخطار تهدد الكنيسة
ليست هذه المقالة عن البابا يوحنا بولس الثاني. بل عن الأخطار التي تهدد الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية، وعن قُدرة الأخيرة، التي لا تخلو من القدرات الداخلية والخارجية، إذا عقدت العزم على تخطي الأخطار بالتعاضد، من خلال خطة طريق وشبكة أمان على المجمع الأرثوذكسي الأنطاكي المقدس الذي سينعقد مطلع تشرين الأول / أكتوبر على التلة البلمندية الحبيبة، أن يضعها ويخاطب بها شعبه في أكثر الفترات حرجا وحساسية في تاريخ الكرسي الأنطاكي الحديث.
ما يحب قوله هنا، أن الوقت ليس الآن للانتقاد أو الانقسام، بل لتضافُر كل الجهود التشاركية والتعاضدية، فنتحلق كجماعة كنيسة، مواهب ومؤسسات، حول بطريركنا يوحنا العاشر الحبيب الصامِد، وحول المجمع المقدس المطلوب منه الارتقاء إلى مستوى المسؤولية النوعية لجبه أخطار المرحلة، فتعبُر الكنيسة الأنطاكية في المَمرّ الضيِّق، وبفِعل تفاعُل عوامل عدة وتراكمها، تبدو كسفينة في بِحار عاصِفة، وحيدة، مَكشوفة ومُثقلة.
التاريخ الكنسي
هذه المقالة تستقي من خبرة البابا البولوني الكاريزماتي كونها نموذجية في التاريخ الكنسي الحديث لمنهجية "فِعل الكنيسة في زمن المِحنة"، لتُضيء على الأخطار الوجودية التي تُهدِّد اليوم، بحدّة وحَماوة ومُباشرة، الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية في مَهدها وفي عقر دارها، وتُهَدِّد تضاريس وجودها، وأسس دورها، وديمومة مؤسساتها في الداخل اللبناني والسوري والمشرقي وفي الانتشار.
تجربة البابا البولوني تعبر التاريخ، لنستقي منها الدروس والعِبَر، وهي تحفيز لنا للبدء اليوم قبل الغد بالمقاومة الكنيسة المطلوبة الروحية، الرعائية، البشارية والمجتمعية على السواء، شبيهة بما قام به.
المرحلة الدولية التي تشكل اليوم إطارا لعيش الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية خطيرة جدا في عالم مترجّح بين نهاية مفاعيل الحرب العالمية الثانية وبداية الثالثة.
وإضافة إلى أخطار تغيير النظام القيَمِيّ وإصلاحاته المُجتمعية الذي تُشكل "نقطة تحول" مجتمعية تضرب كل القيم التقليدية والإيمانية، نشهد تحوُّلا كبيرا وضربا لأسس النظام الدولي الذي أنتجته نهاية الحرب العالمية الثانية. فعناصر المُواجهة والتحالفات بين القوى المُتنافسة في حرب عالمية لا تزال باردة، تتراكم تحضيرا للمواجهة الكبرى. وعالم اليوم يشهد لنهاية مناهج التعددية الدولية التفاوضية ضمن مؤسسات دولية متعددة التي كانت أساس في تكوين القانون الدولي وتطويره بعد الحرب العالمية الثانية.
يسود اليوم تخطي أسس القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، من خلال إعلاء منطق حق القوة لا قوة الحق، ومنطق فرض الأمور بإرادة أوتوقراطية أحادية وفوقية وفقا لمصالح الأقوياء، ومنطق فرض السلام بالمطرقة، واستعمال القوة الناعمة والخشنة معا. فنمت أيضا وقاحة نظرية الحروب الاستباقية التي تبادر إليها بعض القوى من خارج سياق القانون الدولي والمنظمات الدولية. أما المنظومة الأوروبية فكان يُمكن أن تشكل نقطة توازن دولي، وهي على ضعف تكويني اليوم بسبب تبعيتها الأطلسية، وتبدو محاصرة بين القطب الأميركي الذي يتصرف كأنه الأوحد عالميا، والنيو إمبراطوريات الصاعدة، الصينية، الهندية، الروسية، التركية العثمانية الجديدة، والإيرانية الفارسية الجديدة التي تجمع التأثير عالميا كمنظمة شانغهاي للتعاون والأمن.
أما إقليميا، فالكنيسة الأرثوذكسية الانطاكية مُعرضة اليوم لأخطار وجودية متنامية بسبب التحولات العميقة في سوريا ولبنان والمشرق العربي، وتمرّ في لحظة جيواستراتيجية إقليمية على درجة عالية من الأخطار الوجودية. فإضافة إلى الحالة التفككية التي تعيشها الأرثوذكسية الجامعة عالميا، حيث التنافسية والانقسامية حلت مكان التعاضدية والوحدوية، الأوضاع مستعرة في الشرق بفعل المسيانيات الدينية العقائدية الشمولية التي تُحيط بنا، والمدعومة دوليا بسبب المصالح. أخطار هذه المسيانيات كبيرة ومباشرة لكونها تغيِّر جوهريا وجذريا ومنهجيا الهويات والسرديات التاريخية والمجتمعية، والمناهج العلمية والثقافية، وتكوين المجتمع والأنظمة والدساتير والقوانين والتقاليد والحياة اليومية وطرق التعامل، مما يجعله الكنيسة "مُكونا" ذِّميا جانبيا، ويهدد دورها التاريخي المجتمعي بعدما قامت منذ عقود بإنضاج النسيج المجتمعي الوطني في لبنان وسوريا والشرق العربي والمحافظة عليه، وإعطائه أبعاداً مجتمعية ووطنية. فأكبر خطر على الكنيسة اليوم يكمن في خطورة الجنوح الطائفي والمذهبي الحاصل اليوم والذي هو فعلُ تفكك مُدني، قيميّ، أخلاقي ومُجتمعي، وفِعلُ تراجع لأسُس النسيج الوطني ولمنطق دولة القانون والمواطنة.
الطاغي اليوم على المعادلات التي تهددنا هو ضرب أسس الدولة الأمة ودولة المواطنة من خلال فرض الشريعة الدينية مقياسا للتفريق بين المواطنة الدينية والمواطنة الذمية، وهذا يتم أيضا من خلال ضرب أسس النسيج الوطني الذي تعتمد عليه حوكمة الوحدة والتنوع، وضرب جغرافيات سايكس بيكو الدستورية، ليس بالتقسيم الفعلي، بل بالفدرلة الهوياتية على أرض الواقع، من خلال خطط تحريك الكتل البشرية وتغيير الخرائط الديموغرافية، وسياسات القضم والفرز، وتقاسم الثروات والترتيبات الأمنية، وتوسيع مناطق النفوذ والمحميات.
فالمسيانيات الدينية السياسية المتصارعة في الشرق لا تقبل التنوع، بل تخضعه. والأمداد الثلاثة المتصارعة، السنية الأموية، والشيعية المهدوية والصهيونية الدينية اليهودية، هي توسعية النهج ولا تعترف بمفهوم الدولة الأمة الويستفالية. ومما يُثقِل اليوم فعل الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية وتوثبها وتوهجها في مجتمعاتها، إضافة إلى ما سبق، يكمن في خطر فقدانها المناعة الداخلية، بسبب تراكمات قضايا الحوكمة الكنسية التي لم يتم تحديثها منذ عقود، لا بالنصوص ولا بالممارسة، كي لا تجنح نحو التنافسية، كما هو حاصل، بل نحو التعاضد والتشاركية التي تحمي الوحدة.
الكنيسة الأرثوذكسية
كلامي على الكنيسة الأرثوذكسية الإنطاكية واستهدافها، هو لكونها كانت قاطرة في مجتمعات الشرق. لكنها ليست وحدها مستهدفة اليوم، بل كل كنائس الشرق ومجتمعاته ومكوناته المعتدلة على السواء. لكن مسؤولية الكنيسة الأرثوذكسية الإنطاكية مُضاعفة، لأن المطلوب منها اليوم أن تكون مجددا قاطرة ليس فقط للأرثوذكس، بل لكل مسيحيي المشرق ولمكوناته المعتدلة الأخرى التي لا ترضى بالراديكالية الدينية كنظام سلطة وحكم. فإما أن تكون قاطرة فتعيش، وإما أن تقبل بأن تكون مقطورة مُطبِّعَة ومُطَبَّعَة فتُواجه خطر الموت المرحلي وربما الموت السريع الآني.
بالأمس القريب في دمشق الحبيبة، بُعيد عملية تفجير الكنيسة، وهي نقطة تحوُّل في بحر من هذه النقاط في سوريا ولبنان والمشرق، وقبلها، انبرى غبطة بطريركنا الحبيب يوحنا العاشر أمام الحدث الأليم، وتكلم مِن عُمق الألم مُخاطباً عُمق الأمل، واصلاً حق الأمس باليوم وبالغد، ومُشيرا إلى الجوهر والأساس في شهادتنا التي لا نُريدها إلّا سلامية. ولكن هذا ليس كافيا لجبه الأخطار الوجودية الداهمة. فالبطريرك يجب ألا يبقى وحده في خط المواجهة الأمامية، آخذا بصدره كل الأخطار.
المطلوب اليوم أن ينهض معه المجمع المقدس وكل مؤسسات الكنيسة ونخبها وطاقاتها في الداخل الانطاكي وفي الانتشار. فرسالتنا سلامية، ولكن حدَها الشهادة، ولا تقبل المُهادنة القاتلة. فعلى الكنيسة أن تكون كنيسة شاهِدة حية ومُحيية، لا أن تكون كنيسة شهيدة منكفئة تُقتل بصمت ولا ترفع الصوت إلا عند الألم. أن تكون الكنيسة الشاهِدة، المُستنيرة، المقاومة بالإيمان المستقيم، المتوهِّجة بالفكر الكنسي والمجتمعي الريادي، المُقتحمة كل مناهج الحداثة، النموذجية في المُساءلة المجتمعية، المنارة الوطنية التي تُشير إلى الطريق المُستقيم، ولا تخشى أن ترفع الصوت، وأن تسير بثبات وجرأة على عكس التيار السائِد.
شبكة أمان كنسية
التحديات كثيرة ومتشابكة وكتبنا الكثير عنها، ولا مجال لتعدادها هنا بالإعلام. نحن في حاجة اليوم إلى بناء شبكة أمان كنسية انطاكية، واستراتيجية طوارئ كنسية إكليريكية علمانية تنبثق من المجمع المقدس. فتحصين الكنيسة يمُر اليوم بتحسين نوعي لمناهج حوكمة الكنيسة ومؤسساتها، لتكون أكثر تشاركية تشاورية وتعاضدية، على كل المستويات. فلا بد من خطة طريق كنيسة شاملة متعددة الأبعاد، تُشرك الجميع، تقرأ أخطار التنين والطوفان وتستبق تداعياته وطرق جبهه، كل ذلك من خلال مخاطبة مجمعية نوعية جديدة لشعب الله، للتوعية والتمييز والتحفيز!
التحدي الأكبر الداهم أمامنا يُختَصَر بكيفية بناء مجتمعات دولة الحق والقانون والحريات في لبنان وسوريا، دولة المواطنة التي تقوم على احترام الوحدة والتنوع، وتساوي الجميع بالحقوق والموجبات، الدولة التي تحمي دستوريا المكونات، لا دولة المكونات التي يسيطر عليها مكون أحادي "يحمي" المكونات الأخرى ويُخضعها لشريعته.