عندما اكتشفت أنّ بوصلتي أفضل من كل مال الأرض
بقلم الدكتور كمال ديب
بعد التجربة الصعبة التي عشتها في 15 آب/ أغسطس الماضي، وهي حادث سير قاتل هنا في كيبك، عدتُ أُلملم أفكاري وأستعيد حياتي، وأكتشف مرّة أخرى أنّ المبادىء السامية هي التي تنقذني وستنقذني في كل حين، عملاً بقول الرب "فليكن كلامكم نعم نعم ولا لا وما زاد على ذلك فهو من الشرير".
لقد سمحت لي فترة التأمل بأن أستعيد اعتباري لنفسي كجزءٍ فكريٍّ من "الجنوب العالمي" Global South بوجه النيوليبرالية المتوحشة التي باتت تحكم العالم، والمتمثلة في الاستعمار الغربي وأذياله المحلية في دول الجنوب العالمي، من نفعيين وغرضيين وراكبي عروش ومناصب عليا. وهذا التأكيد يشمل ستّة مبادىء جعلتها بوصلتي في التفكير وفي الكتابة.
أولاً، قضية تحرير المرأة. وكون هذا المبدأ يأتي في المرتبة الأولى ليس عشوائياً. فالمرأة نصف المجتمع، حيث لا معنى لأي حرية وتنوير من دون تحرير المرأة اللبنانية والعربية.
ثانياً، القضية الفلسطينية. في أوج النهضة الثقافية العربية – تلك النهضة التي بدأت في بيروت والقاهرة في منتصف القرن التاسع عشر وبلغت أوجها في الأربعينيات من القرن العشرين – أصبَحَت فلسطين عنصراً ملازماً لبوصلة المثقفين والتنويريين، وأنا منهم كما كان صديقي الراحل الكبير جورج قرم، لأنّ فلسطين شكّلت وتشكّل ليس الضمير فحسب، بل التحدي الحضاري والتكنولوجي والتنموي، وهي طريق السيادة والاستقلال والتنمية في لبنان والدول العربية، ويجب أن تستمر في قلب العمل العربي.
ثالثاً، قضية الفقراء والمضطهدين. ليس فقط في لبنان والعالم العربي والجنوب العالمي، بل في كل مكان في العالم شرقاً وغرباً. إذ يجب ردم الهوة الاقتصادية في أميركا وروسيا كما في الصين والعالم العربي. وفي حال العرب، هناك بون شاسع بين إمكانات الدول العربية المادية والعلمية والإستراتيجية وثرواتها الاقتصادية، ونسبة الفقر والتخلّف والحرمان. والحقيقة أنّ إفقار الشعوب في لبنان والعالم العربي مصدره الرئيسي تحالف القوى الحاكمة مع النيوليبرالية العالمية ورفضها تقديم الخدمات الاجتماعية وبرامج الرعاية الرسمية.
رابعاً، قضية العلمنة والحداثة. من البديهي أن تكون العلمنة والحداثة في صلب الحركة التنويرية والنهضوية في لبنان والعالم العربي، لأنها هي ما جعل أمم أوروبا تنهض وتتطوّر وتسير نحو مجتمعات عصرية منذ القرن الثامن عشر. وهذه العلمنة والحداثة لا تنمو إلا في إطار نظام سياسي برلماني وديموقراطي واضح. وهنا من البديهي أن يكون النهضوي اللبناني والعربي عموماً زميلاً للنهضوي الأوروبي الذي يلتزم مبادىء التنوير الصادقة ويحترم قضايا التحرر في العالم، ومنها تحرر الشعوب العربية. فالنهضة العربية لا يمكنها أن تكون إلا شقيقة للنهضة الأوروبية، ولا مكان للعداء بينهما كما قد يصوّر بعض من يقسم العالم إلى دار حرب ودار سلم.
خامساً، قضية الأقليات الدينية والعرقية. في كل بلدٍ عربي تقريباً أقليات دينية وعرقية وإثنية يحقّ لها أن تعيش في ظل قوانين ودساتير تحترم شعائرها وعاداتها ووضعها الاجتماعي، وأن تنتعش هذه الأقليات ضمن نظام سياسي مدني يعترف بالتنوّع. فهناك مسيحيون في سوريا ولبنان والعراق ومصر والسودان وبلدانٍ عربية أخرى، من أقباط وموارنة وأرثوذكس وكاثوليك وغيرهم، وهناك أقليات إسلامية ليست على مذهب الأكثرية في أكثر من بلد عربي، وعدد هذه الأقليات كبير. وهناك عرقيات من أكراد وأرمن في سوريا والعراق ولبنان، وبربر/أمازيغ في شمال أفريقيا، وأفارقة سود في السودان والصومال وموريتانيا، إلخ. ولذلك فاحترام كل هذه الأقليات يحتاج إلى إطار ديموقراطي برلماني منفتح وليس إلى طبخة رجعيّة فاسدة على طريقة نظام الآبارتايد الطائفي في لبنان.
سادساً، قضية مواجهة الاستعمار الجديد. إنّ النيوليبرالية الاقتصادية هي اليوم أقوى من أي فترة استعمارية سابقة. لقد تخطى واقع اليوم التحليل الفلسفي الماركسي بأنّ "الإمبريالية هي أعلى تجليّات الرأس مالية". فقد بلغ الكوكب مرحلة الإمبريالية الغربية عام 1860 وهذه المرحلة أصبحت وراءنا. ولكن منذ 1990، أصبحت النيوليبرالية كإمبريالية جديدة هي التي تسيطر على العالم، وقد بلغت منذ 2010 مرحلة متوحشة لا تريد فقط مشاركة النخب المحلية في نهب ثروات الشعوب، بل أن تكون هي صاحبة الأمر. وعلى النهضويين التنويريين أن يتصدّوا لهذا النوع من الاستعمار الجديد ولا يشاركوا في الترويج لأتباعه المحليين مهما كانت الإغراءات.
على كل مثقف في لبنان والدول العربية أن يتفكّر في هذه المبادئ الستّة ويراجع نفسه كل يوم حول مدى التزامه إياها. فهي تشكّل وحدة عضوية لا تقبل أن يدعي المرء التزامه قضية فلسطين دون أن يلتزم الحداثة العلمانية المدنية، ولا تقبل أن يتبنّى المرء قضية الفقراء والمضطهدين في المجتمع ويرفض تحرير المرأة، أو أن يكون هذا المرء طائفياً وعنصرياً ويعتقد أنّه متنوّر. والأسوأ أن يرى الظلم بعينه ويصمت. تكلّم!
ختاماً، الحرب الحقيقية عالمية وليست في شوارع بيروت أو دمشق أو بغداد أو القاهرة. ولا في السويداء والنبطية وجونيه. بل هي تدور عالمياً على الثروات الاقتصادية وعلى توسّع النيوليبرالية العالمية. والنظام العربي الرسمي يخدم السيد العالمي ويمارس اضطهاد المرأة ويتحالف مع الإقطاع الاقتصادي المحلي المطيع للنيوليبرالية الغربية والمناهض لحقوق الفقراء وللطبقة الوسطى، ويقتل من ليس على دينه أو مذهبه، ويفرض ثقافته على الأقليات، سواء في سوريا والعراق أو في كل آسيا وأفريقيا وأوروبا.
نبض