فوبيا الفدرالية

فوبيا الفدرالية
تعبيرية.
Smaller Bigger


مناسبة كتابة هذا النص هي عودة الكلام عن الحرب الأهلية على أثر رفض حزب الله قرارَ الحكومة بحصرية السلاح، وما ترافق معه من مواقف حادة لقيادات الحزب، فضلاً عن تعليقات وتصرفات جمهوره، التي تعكس أجواء حرب أهلية، لم يضمن عدم حصولها النائب محمد رعد، طالما هناك قرار بنزع سلاح حزب الله.

سبق لرياح الحرب الأهلية ان أتتنا من سوريا بعد مجازر الساحل السوري والسويداء، والتي استدعت سياسياً عقد مؤتمر نظّمه الأكراد في الحسكة، وحضره ممثلون عن الدروز وعن العلويين، مما اعتبر مؤتمراً للأقليات، وقد طالب المؤتمر بنظام مدني تعددي لامركزي. تبع ذلك تعاظم تأثير تيار في السويداء يطالب بالاستقلال التام.

وكانت أصداء المجازر ضد الأقليات على يد القوى المسلحة للنظام السنّي الجديد في سوريا قد فاقمت من حذر فئات واسعة من الطائفة الشيعية في لبنان، تجاه مسألة تسليم سلاح حزب الله، ولا سيما أن للحزب جولات عسكرية عديدة مع فصائل الحكم الحالي في سوريا، عندما كان يحارب هناك دفاعاً عن نظام الأسد.

اللامركزية مطروحة منذ زمن بعيد في لبنان، وتتراوح الطروحات ما بين اللامركزية الإدارية والفدرالية. شبح الحرب الأهلية نتيجة إصرار حزب الله على عدم تسليم سلاحه، إضافة الى تمايز حزب الله في عقيدته الدينية والسياسية عن بقية الجماعات اللبنانية، ورفضه الالتزام بقرار السلطة المركزية، أعاد الى النقاش معضلة التعددية الطائفية والمذهبية وأفضل الطرق لتنظيمها سياسياً من خلال تركيبة الدولة.

أتناول في هذا النص الموقف من الفدرالية كبديل عن الحرب الأهلية في لبنان، على أسس مذهبية وطائفية. أتناول الموقف الرافض بالمطلق للفدرالية مع أنها غير مجرّبة، والمُطمَئِن بالمقابل إلى النظام المركزي وتكرار الحروب الأهلية في ظلّه، مما دفعني إلى افتراض وجود ما يمكن تسميته بفوبيا الفدرالية.

الفوبيا، أو الرهاب، "هي اضطراب نفسي يتميز بخوف شديد وغير منطقي من شيء أو موضوع معين". لدى البعض خوفٌ من الفدرالية يترافق عادة مع فهم مغلوط لها ومع تفكير غير منطقي بشأنها، لذلك اعتبرتُه أقرب إلى الفوبيا.

الالتباس الأول هو الخلط بين الفدرالية والتقسيم، مع أن الفرق كبير وواضح بين الاثنين، بحيث إن الفدرالية تحافظ على الدولة الواحدة والأمن الواحد والاقتصاد الواحد والعلاقات الخارجية الواحدة، على عكس التقسيم تماماً. فـ"الفيدرالية هي آلية دستورية لتوزيع السلطة في الدولة الواحدة بين مختلف مستويات الحكم، بحيث تتمتع الوحدات الاتحادية بحكم ذاتي مضمون دستورياً في مجالات سياسية معينة، وتشارك في السلطة وفق قواعد متفق عليها في مجالات سياسية أخرى".

بسبب الخلط بين التقسيم والفدرالية، تُتهم الأخيرة بأنها مقدّمة حتمية لحرب أهلية، في حين تُقدم الفدرالية نفسها أساساً كحلٍّ لهذه الحرب أو تفادياً لحصولها. والغريب أنه عندما تُطرح الفدرالية تكون البلاد غارقة بحرب أهلية أو مُهدَّدة باندلاعها، فتُرفض بسبب الجزم بأنها ستتسبب بحرب أهلية!

بعضهم يرفض الفدرالية كمشروع "يميني"، ربما لارتباط الفكرة بحرب ١٩٧٥، والمناداة بها في حينه من قبل "الجبهة اللبنانية"، المصنّفة كـ"يمين مسيحي"، مع أن أهم من طرح الفدرالية على المستوى الفكري هو اليسار ممثلاً بالفرنسي الاشتراكي جوزف برودون وغيره، كما أن التيار الاشتراكي - الفوضوي (الأناركي)، الذي مثله باكونين كان يروّج للفدرالية ليس فقط داخل الدول بل في ما بينها أيضاً. الموقف اليساري المناقض عندنا ربما هو انعكاس للتيار الغالب، الماركسي اللينيني، بنزعته المركزية الحادة.

الفدرالية على أساس طائفي أو مذهبي مرفوضة أيضاً باعتبارها مناقضة للعلمانية، المرتبطة بأذهان البعض بالدولة المركزية. مركزيتنا اللبنانية، الراعية للنظام الطائفي والمذهبي، ليست قادرة حتى على إلغاء الطائفية السياسية، مخافة أن يتحوّل هذا الإلغاء الى هيمنة إسلامية، نظراً إلى عدم التكافوء العددي بين المسيحيين والمسلمين، ولتحكّم الانتماءات المذهبية والطائفية بدوافع التصويت، في ظلّ غياب أحزاب فاعلة عابرة للطوائف. كما ان موضوع العلمانية يُرفض بمجرد أن يُطرح، من قبل المرجعيات الدينية، وهو ليس على أجندة الأحزاب الأكثر تمثيلاً من الجانبين. وقد زاد المسألة استحالة نفوذُ حزب الله، الحزب الدينيّ الذي يطبق على أتباعه عقيدته الإقصائية للآخر، والمنافية كلياً للقيم العلمانية.

إني أفترض أن العلمانية تصبح أسهل تطبيقاً في بعض المناطق المفدرلة الأقرب إلى القيم العلمانية، والتي لا يعود يخيفها معيار العدد ورجحان كفة طائفة على أخرى. وفرضيتي تتغذّى من التجارب العالمية التي لا نجد فيها انتقالاً من نظام طائفي مسيحي - إسلامي إلى نظام علماني، إلا ربما بعد التحول إلى فدرالية.

بعضهم يرفض الفدرالية لأنها تقوم عندنا على أساس مذهبي - طائفي، انطلاقاً من مبدأ دونيّة هذا النوع من التجمعات البشرية. لكن الفدرالية ليست من يخلق هذا النوع من التجمعات بل هي تتكيّف معها؛ ذلك أن هذه التجمعات تضرب جذورها العميقة والبعيدة في التاريخ، كما أنها قد ترسّخت جغرافياً بفعل الحروب الأهلية المتكررة وبفعل التقوقع والخوف من الآخر عبر الزمن. بالمقابل تحاول الفدرالية تنظيم العلاقات بين هذه الجماعات على مستوى توزيع السلطة اللامركزية بحيث لا تؤدي الحساسيات بينها إلى نزاعات دموية دورية، بدوافع دينية أو سياسية أو اقتصادية أو ثقافية.

وبعد، فإن هذا النوع من الجماعات الأهلية لا يغيب داخل المجتمعات العلمانية نفسها، كما أن بعض البلدان العلمانية قامت أساساً على شيء من الصفاء الديني أو الطائفي أو المذهبي، إضافة إلى أن الفدرالية لا تلغي إمكانية التفاعل بين هذه الجماعات وعلى جميع المستويات.

أخيراً، يجري نبذ الفدرالية بصفتها مشروعاً إسرائيلياً - أميركياً يهدف إلى تفتيت المنطقة، عن طريق خلق كيانات متناحرة، تقوم على أساس ديني - طائفي، مثلها مثل إسرائيل، مما يبرّر وجود هذه الأخيرة. مشروع إسرائيلي - أميركي من هذا النوع لا يحقق أهدافه إلا من خلال التقسيم وليس الفدرالية. فالفدرالية هي نقيض المشروع الإسرائيلي، إذ إنها تجمع هذه الكيانات في دول موحّدة، وتعطي مثالاً حيّاً على قدرتها على التعايش في ما بينها. وهذا في الواقع ما يشكّل تحدياً للكيان الإسرائيلي ودحضاً لحججه في رفض حل الدولة الواحدة مع الفلسطينيين، بعد أن ضرب مقوّمات قيام دولة فلسطينية مستقلة.

التحرر من فوبيا الفدرالية لا يعني بالضرورة قبولها كحل سياسي أمثل، بل يفتح الباب أمام مناقشتها بعقلانية أكبر. مخاطر تجدد الحروب الأهلية في المشرق العربي تحمّل الجميع مسؤولية تناول الموضوع بجدية قصوى.

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 10/8/2025 3:44:00 AM
أقدم شقيق النائب الأردني السابق قصي الدميسي على إطلاق النار من سلاح رشاش تجاه شقيقه عبد الكريم داخل مكتبه، ما أدى إلى وفاته على الفور.
اقتصاد وأعمال 10/7/2025 5:24:00 AM
سترتفع كلفة تسديد مفاعيل التعميمين من نحو 208 إلى 260 مليون دولار شهريا، بزيادة نحو 52 مليون دولار شهريا
لبنان 10/6/2025 11:37:00 PM
افادت معلومات أن الإشكال بدأ على خلفية تتعلق بـ "نزيل في فندق قيد الإنشاء تحت السن القانوني في المنطقة".
لبنان 10/7/2025 1:21:00 PM
 النائب رازي الحاج: ابتزاز علني لأهل المتن وكسروان وبيروت