الحصاد

آراء 10-07-2025 | 16:06

الحصاد

فتحت التطورات الإقليمية والدولية نافذة أمل، تمثّلت بانتخاب رئيس جديد. وإذا صحت النوايا، يمكن أن نشهد بداية لمسار إنقاذي، بشرط أن نكفّ عن الرهانات القاتلة، وعن الانقسامات العقيمة.
الحصاد
فلنزرع، هذه المرّة، ما يليق بالحياة.
Smaller Bigger

شرف أبو شرف

نقيب الأطباء سابقاً

 

تقرع طبول الحرب من جديد، وتتعالى أصوات الخطر في منطقتنا، كأننا لم نغادر بعد مشهد الأمس، وكأن التاريخ يصرّ على أن يعيد نفسه، لا عبر دروس مستفادة، بل عبر كوارث متكررة. فإلى متى نبقى أسرى لماضٍ لم نُصالحه، وحاضرٍ لم نفهمه، ومستقبلٍ نخافه قبل أن يأتي؟

في لحظات السلم، لم نستثمر الزمن في بناء دولة القانون، بل مارسنا القمع بدل الحوار، والتخوين بدل الإصلاح. عُزلت الأصوات المخالفة، لا عبر النقاش، بل بالترغيب والترهيب، أو التهميش، أو حتى بالقتل والنفي. عجزنا عن كتابة تاريخ موحّد، وفضّلنا دفن الحقيقة على مواجهتها.

 

مارسنا الاستبداد بالرأي، وها نحن اليوم نطالب بحرية الرأي وكرامة الموقف، دون أن نعترف بأننا كنا أوّل من أساء إلى هذه القيم، ثم أتينا نبكي على أطلالها.
لم نحصّن بيتنا الداخلي، فأتت العاصفة وأطاحت بكل شيء. لم نُعِدّ مجتمعاً قوياً، ولا اقتصاداً صلباً، ولا مؤسسات حقيقية.

 

لم نستعدّ لأي معركة بأسس علمية، ولا بصيغة عقلانية حضارية لبنانية جامعة. تجاهلنا أن المقاومة، كي تنجح، تحتاج إلى مجتمعٍ متماسك، إلى مواطنة فعلية، إلى تنمية تُحصّن الجبهة الداخلية. صحيح أننا قاومنا من أجل قضايانا المحقّة، ولكننا لم نستثمر في الإنسان الذي يحمل هذه القضايا، ونسينا أن السيادة لا تُساوَم.

 

كم ضيّعنا فرصاً حين لم نبنِ جسور الثقة بين أبناء الوطن الواحد. وكم تجاهلنا أن الفقر حين يتفشّى، يصبح المواطن فريسة سهلة لأي استغلال داخلي أو خارجي.

أين هي المدرسة الوطنية؟ أين هو المشروع الوطني الذي يجمع اللبنانيين على قيم واحدة، على وطنٍ لا طائفة فيه تُقدَّم على أخرى؟

 

منذ الطائف حتى اليوم، لم ننجز مصالحة حقيقية، ولا إصلاحاً جذرياً. أعدنا تدوير الأزمات، واستبدلنا الوجوه دون تغيير السياسات. غاب عن وعينا أننا لم نزرع يوماً المحبة أو الأمل أو ثقافة السلام. ما زرعناه كان الخوف، والشك، والريبة. غذّينا النفاق بدل الصراحة، والتجاذب بدل الثقة. فكان الحصاد يأساً، وانهياراً، وتفككاً، وحرباً، وخراباً.

 

فهل من عجب أن يصبح لبنان ساحة مفتوحة لكل صراع، وأن تتحوّل سيادته إلى مادة في صفقات الخارج؟

في الجنوب، حيث صمد الناس لعقود، سقط العقل تحت وطأة الحصار والحرب والانقسام. وفي بيروت، المدينة التي شهدت أبهى صور النهضة الثقافية في خمسينيات القرن الماضي، بات التيه عنوان المرحلة. لا كهرباء، لا ماء، لا أمان اقتصادياً أو اجتماعياً. صفقات مشبوهة، فساد مستشرٍ، ومجتمع ينزف من أطرافه. كأن ما يُراد لنا هو الانهيار الكامل، تمهيداً لإعادة تشكيل الوطن على أسس لا تُشبهنا.

 

الهجرة بلغت ذروتها، وها نحن نفقد طاقاتنا البشرية الواعدة. شبابنا يهاجرون، لا هرباً من الوطن، بل فراراً من منظومة لا تؤمن بهم ولا تعطيهم حقهم. والطبقة الوسطى التي كانت عماد الدولة ومحرّك المجتمع، تآكلت بفعل السياسات العمياء.

 

فهل نبقى نراوح مكاننا، نُحمّل الخارج كل المسؤولية، فيما نحن عاجزون عن مصارحة أنفسنا؟ أما آن لنا أن نغيّر الزرع، كي نرجو يوماً حصاداً مختلفاً يعطينا الأمل والسكينة والسلام؟

حين ننظر إلى تجارب شعوب أخرى، ندرك حجم الفرص الضائعة عندنا. ألمانيا، بعد الحرب العالمية الثانية، أعادت بناء نفسها عبر المصالحة والعدالة والبحث العلمي. رواندا، بعد الإبادة، نجحت في إعادة لحمة مجتمعها من خلال مشروع وطني جريء. جنوب أفريقيا، أسقطت نظام الفصل العنصري دون إراقة دماء، بفضل شجاعة الاعتراف، وسماحة الغفران. أما نحن، فما زلنا نتقن جلد الذات أكثر من إصلاحها، ونتفوّق باجترار الأوهام أكثر من بناء الحلول.

رغم ذلك، ما زال في الأفق بارقة أمل بوحدتنا.

وحدها الوحدة قادرة على إعادة بناء الدولة. وحده التمسّك بالمؤسسات والشرعية يحمينا من الانهيار. وحده الجيش الوطني المنضبط، الموحَّد الولاء، يستطيع أن يصون السيادة. ولا سيادة دون قانون وعدالة ومساواة.

وعلينا أن نتذكر أن الوفاء يجب أن يكون للبنان، لا لأي محور خارجي أو مشروع عابر للحدود. لبنان لا يُبنى بالتحالفات الطائفية، بل بالدولة الجامعة العادلة. ولا يُبنى بالخِطابات، بل بالفعل، بالمدرسة، والمستشفى، والكهرباء، والخبز، والكرامة.

 

لقد فتحت التطورات الإقليمية والدولية نافذة أمل، تمثّلت بانتخاب رئيس جديد. وإذا صحت النوايا، يمكن أن نشهد بداية لمسار إنقاذي، بشرط أن نكفّ عن الرهانات القاتلة، وعن الانقسامات العقيمة.

اليد الواحدة لا تصفّق. ولكن اليد التي تُصافح، تبني، وتسامح، قد تُنقذ الوطن.

 

إن كنا نريد وطناً لأبنائنا، فعلينا أن نكون صادقين في إعادة النظر في كل شيء: في الخِطاب، في الزرع، في القيم. وإلّا، فلن تعود طيور الحبّ إلى ربوعنا، ولا أغاني الفرح إلى قرانا، ولا الوطن إلى معناه الحقيقي.

كفى أوهاماً بائسة. كفى أحلاماً زائلة. لبناننا يستحق فرصةً أخرى.

فلنزرع، هذه المرّة، ما يليق بالحياة.


العلامات الدالة

الأكثر قراءة

العالم العربي 10/17/2025 6:20:00 AM
"وقهوة كوكبها يزهرُ … يَسطَعُ مِنها المِسكُ والعَنبرُوردية يحثها شادنٌ … كأنّها مِنْ خَدهِ تعصرُ"
ثقافة 10/17/2025 6:22:00 AM
ذلك الفنجان الصغير، الذي لا يتعدّى حجمه 200 ملليليتر، يحمل في طيّاته معاني تفوق حجمه بكثير
ثقافة 10/17/2025 6:23:00 AM
القهوة حكايةُ هويةٍ وذاكرةٍ وثقافةٍ عريقةٍ عبرت من مجالس القبائل إلى مقاهي المدن، حاملةً معها رمزية الكرم والهيبة، ونكهة التاريخ.
ثقافة 10/17/2025 6:18:00 AM
من طقوس الصوفيّة في اليمن إلى صالونات أوروبا الفكرية ومقاهي بيروت، شكّلت القهوة مساراً حضارياً رافق نشوء الوعي الاجتماعي والثقافي في العالم.