لا بدّ من نقد ذاتي لتجربة الإمبراطورية الشيعية

آراء 16-12-2024 | 14:35

لا بدّ من نقد ذاتي لتجربة الإمبراطورية الشيعية

مع طي صفحة ولاية الفقيه وقيادة رجال الدين للطائفة الشيعية في الإقليم، لا بد من فك الارتباط بين الشيعة العرب والقضية المركزية التي لم يحسبوها قضيتهم يوماً، فبالكاد يوجد أي فلسطيني شيعي... 
لا بدّ من نقد ذاتي لتجربة الإمبراطورية الشيعية
رجل دين شيعي خلال تظاهرة مناهضة لاسرائيل في طهران. (أ.ف.ب)
Smaller Bigger

على أثر سقوط نظام صدام حسين، أجمع شيعة العراق على رفض الانضواء تحت مشروع إيران لمكافحة الاستكبار العالمي، وعلّل قادة الطائفة بأنهم بعد سقوط السلطنة العثمانية وتسلّم البريطانيين حكم العراق، في العام 1920، ثار الشيعة من عشائر الفرات الأوسط والجنوب ضد الاستعمار، فتكبدوا خسائر فادحة، وأهدت لندن حكم العراق الى الطائفة السنية، التي تحالفت مع الاستعمار، وحقققت مكاسب كبيرة لبلدانها.

لذا، في 2003، رفض الشيعة "مقاومة" الاحتلال الأميركي، بل هم هلّلوا له، وأيّدوه، وتحالفوا معه، ما اضطر قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني الى الاستعانة بعلي موسى دقدوق، من حزب الله اللبناني، للإشراف على عمليات قتل وخطف جنود أميركيين، فضلا عن تجنيد عراقيين وتنظيمهم في ميليشيات "مقاومة" مسلحة.

التجربة العراقية هي التي حثّت سليماني على دفع "حزب الله" مجدداً الى سوريا لاستعادة أراضٍ كان غنمها الثوار من بشار الأسد، ولتحويلها الى قواعد للميليشيات الموالية لإيران.

ويشير الخبراء إلى أن مشاركة "حزب الله" في الحرب السورية أجبره على التحول من تنظيم سري صغير الى جيش نظامي كبير، وهو ما فتح الباب للاختراق الاستخباراتي الإسرائيلي لصفوفه، وتالياً لتدميره.

والأهم، قبل اندثار "حزب الله" على أيدي إسرائيل، أن نشوة الانتصارات في العراق، وانسحاب أميركا منه، ثم الانتصارات بالتعاون مع أميركا ضد داعش في شمال العراق الغربي، والانتصارات في سوريا، كلها أعطت إيران وسليماني و"حزب الله" شعوراً بالقوة التي لا تقهر، فلم يكتفِ زعيم "حزب الله" الراحل بالتهديد باحتلال إسرائيل، بل بضرب قبرص كذلك، وهي عضو في الاتحاد الأوروبي. كان ذلك اليوم الذي وصلت فيه الإمبراطورية الشيعية، بقيادة إيران الإسلامية، ذروتها، من طهران إلى بيروت.

لكن أسطورة الغرور بالقوة، التي تعود على أصحابها بالبلاء، لا تزال هي نفسها منذ الأزل، إذ حوّلت إسرائيل كل ميليشيات إيران في لبنان وسوريا الى عصف مأكول، وهاجمت إيران جوياً، بضراوة وعلى مدى ساعات متواصلة، فدمرت كل راداراتها وقواعد الدفاع الجوي، وخفّضت قدرة إيران على صناعة الصواريخ من ستين إلى أربعة في الشهر الواحد، وضربت موقعاً لتجارب التسلح النووي.

فهمت إيران حجمها، فأحجمت عن الرد على الضربة الإسرائيلية، على الرغم من الإهانة والذل الذي لحق بصورة إيران في المنطقة، واختارت طهران التقوقع والعمل على إعادة البناء في انتظار أيام أفضل. لكن الحرب لن تنتهي بانطواء طهران على نفسها، بل صار المطلوب منها التخلّي عن إنجازات حققتها على مدى العقدين الماضيين، مثل نيلها اعترافاً دولياً بالسماح لها بتخصيب اليورانيوم، وهو حق ينحصر بأقل من عشر دول في الكوكب.

عندما يدخل دونالد ترامب البيت الأبيض، سيطلب من إيران تفكيك منشآت تخصيب النووي وشحن النووي المخصب إلى دولة ثالثة، الأرجح روسيا، حيث تقوم الأخيرة بتسليم طهران اليورانيوم مخصباً للاستخدام النووي بشكل لا يمكن زيادة مستوى التخصيب فيه.

وإذا امتنعت إيران عن ذلك، ستوجه الولايات المتحدة، مع إسرائيل أو وحدها، ضربة قاضية تحوّل كل زاوية في البرنامج النووي الإيراني إلى ركام كامل.

الإمبراطورية الشيعية، بقيادة إيران الإسلامية، والتي بدأ صعودها مع ضرب أميركا قوى محسوبة أنها سنية في العراق وأفغانستان، انتهت صلاحيتها. إما أن تنفذ طهران الإملاءات الدولية، وإما يتحوّل نظامها ركاماً.

يمكن القيادة الإيرانية أن تكابر وتقول للأميركيين "لا تحلموا"، على غرار ما قاله الراحل نصرالله في آخر خطاب له قبل أيام من قيام إسرائيل بقتله، ولكنها إن فعلت ذلك، تضمن نهاية أكثر حزناً لمغامراتها الامبريالية في الشرق الأوسط.

انتهت إمبراطورية المستضعفين وفاز المستكبرون. على شيعة الشرق الأوسط اليوم مراجعة أدائهم في العقدين الأخيرين: حروب بتكلفة مئات مليارات الدولارت، ومئات آلاف القتلى، وتصفية الصف القيادي الشيعي الإيراني واللبناني بأكمله، ثم ماذا؟ دولتان فاشلتان في إيران ولبنان على شفا الانهيار، وثأر مع باقي الطوائف في المنطقة، خصوصاً الغالبية السنية، وإثارة حقد وكراهية عند الآخرين ضد روايات المذهب عن أهل البيت وسيرتهم ومظالمهم وثاراتهم.

في المحصلة، فشلت القيادة الدينية فشلاً ذريعاً في إدخال الشيعة بالعصر الحديث، وهو فشل فكري بدأ مع محمد باقر الصدر وكتابيه عن الاقتصاد والفلسفة، ثم علي شريعتي المعادي للإمبريالية، وبعده روح الله الخميني وحكومته الإسلامية، وأخيراً رجال الدين الذين رفعوا بنادق كلاشنيكوف فوق عماماتهم واتخذوا منها شعارا لهم.

حان وقت تنحّي الحوزة ورجال الدين وزعماء الميليشيات عن القيادة الشيعية وتسليمها للسياسيين وصنّاع الرأي من غير الدينيين، وما أكثرهم في العراق، من رئيس الحكومة السابق مصطفى الكاظمي، إلى سلسلة طويلة من المثقفين من عقيل عباس وحيدر سعيد وحارث حسن وتمارا الجلبي وغيرهم من نخبة عراقية تسكن الاغتراب بعدما تركت الوطن للعصابات المسلحة وميليشيات الأمر الواقع.

الكاظمي بدأ نقده الذاتي، والمثقفون العراقيون بدأوا يتدارسون الأزمة الشيعية وضرورة طي أربعة عقود مريرة من حقبة حكم الحوزة وولاية الفقيه. 

للأسف، في لبنان، قضت الميليشيا الموالية لإيران على مثقفي الشيعة فيه، إما قتلاً – كالعزيز لقمان سليم – أو تغريراً لتحويلهم الى أبواق دعاية بدلاً من قيامهم بلعب دور ضمير الطائفة ودفعها للانخراط في وطنها وإعلاء ثقافة المواطنية على أحلام الإمبراطورية العابرة للحدود.

ومع طي صفحة ولاية الفقيه وقيادة رجال الدين للطائفة الشيعية في الإقليم، لا بد من فك الارتباط بين الشيعة العرب والقضية المركزية التي لم يحسبوها قضيتهم يوماً، فبالكاد يوجد أي فلسطيني شيعي، والأقصى فيه مسجدان: واحد بناه الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان والثاني الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، والشيعة لايبدون حماسة تجاه أي منهما. إذن، لا سبب شيعياً دينياً للاندفاع لفرض سيادة عربية على هذين الصرحين؟

لا بأس أن يلتزم الشيعة موقف حكوماتهم تجاه القضية الفلسطينية، إن كان سلاماً مع إسرائيل قبل قيام فلسطين أو بعدها. لكن لا بد من التخلي عن غوغائية القضية الفلسطينية الميليشيوية، والتفرغ لبناء الذات، وللمصالحة مع الإخوة العرب من غير الشيعة، لأن المنطقة تتسع للجميع، والسلام يعود خيراً على جميع العرب كذلك، شيعة وسنة ومسيحيين ويهوداً وعلويين ودروزاً واسماعيليين ويزيديين وغيرهم.


* باحث في مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات في واشنطن

 
العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 10/8/2025 3:44:00 AM
أقدم شقيق النائب الأردني السابق قصي الدميسي على إطلاق النار من سلاح رشاش تجاه شقيقه عبد الكريم داخل مكتبه، ما أدى إلى وفاته على الفور.
المشرق-العربي 10/9/2025 5:51:00 AM
حذّر أدرعي سكان قطاع غزة من العودة إلى المنطقة التي تقع شمال وادي غزة
اقتصاد وأعمال 10/8/2025 7:17:00 PM
ما هو الذهب الصافي الصلب الصيني، ولماذا هو منافس قوي للذهب التقليدي، وكيف سيغير مستقبل صناعة المجوهرات عالمياً، وأهم مزاياه، وبماذا ينصح الخبراء المشترين؟