الإمارات ولبنان: وطنان واحتفالان

آراء 10-12-2025 | 06:08

الإمارات ولبنان: وطنان واحتفالان

منذ أيام شعرت بلحظاتي تَعبُر بين وطنَين يحتفيان. وطنَان أنتمي اليهما بالولادة وتكوين أسرة. وطنَان كانا على مسافة متعاكسة من الاحتفال. وطنان كعينين كنت اتطلع للعالم عبرهما
الإمارات ولبنان: وطنان واحتفالان
عرض جوي بألوان العلم الإماراتي في أجواء حلبة سباق الفورمولا في أبوظبي.(أف ب)
Smaller Bigger

منذ أيام شعرت بلحظاتي تَعبُر بين وطنَين يحتفيان. وطنَان أنتمي اليهما بالولادة وتكوين أسرة. وطنَان كانا على مسافة متعاكسة من الاحتفال. وطنان كعينين كنت اتطلع للعالم عبرهما.  وطنان قد لا يشبه الواحد الآخر، أو ربما يتشابهان كثيراً..,  بين هذين الوطنين رأيت ضوءين ونور. وربما هو نور على نور.

وطن يضج بعيده الوطني ويحضر لأشهر، أو أكثر.  يحتفي به كل الكل. المدارس، والجامعات، والاحياء والمؤسسات، والفنادق والحدائق العامة، والأبنية والمستشفيات، والشوارع والمراكز التجارية وحتى المباني والاحياء والحدائق العامة.  كيفما صوّبت النظر تزدان السموات، وتقام المسيرات والاحتفالات والمسارح. حتى الفاكهة والخضر في السوبرماركت احتفلت.  استثمرت ألوانها وخَضارها وفاكهتها النضرة، لتصنع تشكيلات ونماذج لفرح العيد الإماراتي. في لفتة إبداعية خاصة: شًكَّل عمال السوبرماركت بالفاكهة والخُضر علم الإمارات، وعبارات الحب، ورسمات القلب الأحمر في حب الإمارات.  كأن الفاكهة والخضر هي وألوانها النابضة بالحياة جزء من هذا الفرح الاحتفالي، أو شكل من أشكال اللباس الوطني. 

وربما واحدة من أبرز مظاهر احتفالية العيد الوطني في وطن كالإمارات أكثرية سكانه من الوافدين- أن ترى الجاليات نساء ورجالاً وأطفالاً يحتفلون بفرح كأن الوطن وطنهم.  الأطفال، أولاد  وفتيات يرتدون الزي الإماراتي الذي تحول سلعة رائجة كأنها ألعاب "الكريسماس" تباع في الأسواق والمولات.  منذ عام أرسلت لي إحدى السيدات الصينيات، والتي عرفتها منذ أكثر من ثلاثين سنة ـ صورة جميلة لحفيدها ابن الثالثة من العمر.  شكله في الصورة يطل فرحاً بهياً باللباس الاماراتي التقليدي، والبشت والغترة والعقال والعصا بيده ويسير منتصباً كأنه تشّرب هذه الرسالة لإماراتي وافتخر. وكانت الجدة في الصورة والفيديو تشاركه الفرحة وشيئاً من الفخر انها استطاعت تربية ليس ابنها وتعليمه بالجامعة الأميركية وتخرجه كمهندس فحسب؛ بل انها رأته أيضاً يبني أسرته في دبي بعد ان وقع في حب فتاة من تايوان تعمل في طيران الامارات.  أحياناً تقول لي لو بقيت في الصين لما استطعت تحقيق مثل هذه الحياة لابني. هي الآن في منتصف الستينات ولا تتطلع للعودة الى الصين إلا إذا جد عليها طارئ صحي. فهي وابنها وربما حفيدها المولود في دبي والذي لا يحفظ سواها في عقله الباطني، يفضلون العيش في الإمارات على الوطن الأصلي. 

 مشهد آخر لم أتوقعه رأيته في بهو المستشفى.  العاملات والعاملون يحتفلون معاً في البهو الكبير الذي تحول من ساحة معاناة وقلق انتظار الى محطة فرح ورقص، وعيالة، وحنة، وتلي، ومراقبة الأطفال للصقر المحمول على أيدي أحد المروضين للصقور المستخدمة للصيد. 

منذ وطأت قدماي أرض الإمارات في صيف 1985 وحتى اليوم، أربعون عاماً مرت وانا أشارك في أعياد الاتحاد بأشكال متعددة.  وأراها تتشكل وتتبدل، والفرحة تكبر. رأيت الكثير من العروض المبهرة وربما آخرها العرض الذي قدم في حتا العام الماضي وبنيت له منصات خاصة ومسرح، وعرض هذه السنة الذي افتتح متحف الشيخ زايد بمعماره البهي.  سنة بعد سنة وعيد بعد عيد تتراكم التجارب. ولا زلت أذكر عندما كان طفلي الأول صغيراً يكاد يمشي. أسير معه ونشارك في المسيرات. ألبسه الثوب الإماراتي والغترة كعصامه. كان يحمل العلم بفرح بريء. وكبر أولادي وبقي للعيد الوطني موقع خاص في المشاركات المدرسية.  وفي الجامعة، حيث كنت أدرِّس، كنت وطالباتي نستعد سنوياً للاحتفال. اللبس والأكل والحناء وكل اشكال المأكولات الوطنية والابداعات الطالبية. ثم عاصرت طالباتي يحضرن للجامعة واحتفالاتها حتى بعد تخرجهن، أو الزواج والانجاب.  الاحتفالية أصبحت مناسبة لإعادة التواصل وحمل ابنائهن وبناتهن لعيش المسيرة المستمرة. وهذه السنة عبرت الاحتفالية الحدود من الإمارات الى غزة.  وما كان أجمل من لوحة الفرح على محيا 54 عروساً وعريساً، بعدد سنوات الاتحاد الإماراتي. عرسان فلسطين زرعوا زهرة كونية للفرح على أنقاض كل الدمار الذي خلّفه القصف الإسرائيلي لغزة.

بينما اتابع الاحتفالات التي كانت ترسم في أخدود الذات حيث انتمائي لأوطان مغروسة في الوجدان.. وفي ذهني بحر، تسبح فيه الذكريات.  منذ بدأت بتلقي التهنئة بعيد الاتحاد في الإمارات، كنت في آن اتابع الاحتفاليات التي كانت تقام في مسقط الرأس لبنان.  كانت الفيديوهات والصور والمتابعات الصحافية من على هاتفي الصغير تدق على أوتار قلبي الحزين.  كنت كما كان كل من له صلة بلبنان يتمنى لهذه الزيارة والاحتفالية ألا تنتهي، فلا يواجه الناس مصيراً مخيفا لسيناريوهات جديدة للحرب والاعتداءات الإسرائيلية عليه. زيارة البابا لاوون الرابع عشر منذ وطأت قدماه الأرض، الى حين مغادرته والقلب يفطر على وطن مزقته الطائفية والمصالح الشخصية والصراعات السياسية.  كنت اشاهد اللبنانيين، شباباً  وأطفالاً ونساء ورجالاً، الكل يقف ويلوح بأعلام الوطن وأعلام الفاتيكان. والذاكرة ترقص على الذكرى لجسدي الصغير عندما كنت أقف على الطريق بمحاذاة الأجساد الصغيرة الأخرى لأطفال المدارس مثلي، لنلوح بالأعلام لعيد الاستقلال وموكب رئيس الجمهورية. 

كأن الأمس هو اليوم. لا فرق سوى أن جسدي استبدل بأجساد جديدة وطرية. ربما لا تفهم هذه الأجساد التي لم تعبر خارج حد الطفولة بعد، الفرق بين رئيس جمهورية ورئيس كنيسة بحجم البابا.  لكنها تحمل العَلَم والأملَ المستبدل بصورة هذا الآتي الجليل من البعيد والذي قيل إنه "كالمخلص"!... منذ أشهر، زرت لبنان بعد طول غياب. أحمل الأمل والألم. ألمٌ على وطنٍ طحنته الصراعات الإقليمية ومزّقت النسيج المجتمعي، أكثر مما هو ممزق، وغيَبَت الوعي الوطني خلف تجييش للأحقاد الطائفية التي انتشت وانتعشت بمنطق القوة، ولم تخجل أحياناً وكثيراً، من الصراخ علناً في الشوارع والأزقة. ومن اسوأ ما غيبت كان صوت الشباب وإرادة التغيير التي ما أن علا صوتها حتى أصيب برصاصة الموت سجناً وطحناً بالفقر والعوز والهرب سعياً خلف الرزق والأمل بالعودة للوطن، الذي كان يحمله مع الاعلام ويأمل أن يكبر فيه ومعه منذ الطفولة، ومنذ لوّح له بالأعلام. 

 

 

البابا لاوون الرابع عشر بين الحشود في وسط بيروت.(أف ب)
البابا لاوون الرابع عشر بين الحشود في وسط بيروت.(أف ب)

 

 

عندما غادرت لبنان للمرة الأولى في حياتي بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. كنت أجر على الكرسي المتحرك والداً شلّه الحصار الإسرائيلي وغياب الأمل في وطن فقد القيادة الوطنية الحكيمة. وعندما عدت بعد ذلك، كنت قد تغيرت كثيراً. وحملت كمعظم الغيّاب عن الوطن قصصاً ووقائع لحياة وبطاقات عبور جديدة.  لكنني في كل مرة كنت أعود، سرعان ما كنت أخرج بشيء من العتمة في قلبي. وفي الصيف الماضي حاولت تغليب الأمل على الألم. وكم سعدت وأنا أعبر شارع المرفأ الحزين. رأيت صور الثنائي الوطني الجديد (رئيسا الجمهورية والحكومة)، كأنها تستبدل الثنائيات الطائفية.  بلحظة شعرت قلبي ينبض كطفلة استعادت الأمل بوطن سنصنعه من جديد على ثنائية الميثاق التي رفعنا لها الأعلام ونحن نقف في الشوارع.  نرفرف بالبراءة كما الاعلام الصغيرة بأيدينا. نحلم بوطن نصنعه نحن بالتفاهم والرضا والعيش المشترك، بعيداً من لعبة الانقسامات و"الهويات القاتلة". نروي الوطن بقلوبنا المشتعلة حباً كزهرة الحرية.  لكنني رأيت بعدها كيف نحر قلبي الطفولي على صخرة الروشة، وبقي الأمل يعتصر في صدري، ربما لم يمت بعد.. 

جاءت مشهدية الاحتفاء بالبابا، كزِرٍ الخلّاط في أعماقي.  نعم، كأن "البلندر" خلط الماضي بالحاضر والمستقبل ليعيد أمام ناظري الاحتفالات بالبابا كأنها عرس الجليل أو قانا. لا بل أكثر. وسط الاعتقاد أن أرض لبنان مقدسة بحضور المسيح نفسه اليها، وكذلك العذراء مريم.  ما أكثر الإيحاء الجميل بهذا الاعتقاد.  وهل يمكن للاعتقاد أن يكون حقيقة؟  (لم يكن للطفولة في خفّاقي أن تستكين) كنت أسمع الكلمات عن قدسية لبنان وعقلي الصغير/الكبير يرقص بالأسئلة العفوية. هل حَمَت قدسية فلسطين والقدس وأرض الإسراء والمعراج من عنف البشر وقساوة استغلالهم لبعضهم البعض؟  هل صانت القدسية أياً من المقدسات التي سقطت تحت أقدام الجهل والتسلط والتخلف ووسط وعي مغيب للقيمة الإنسانية والمطامع الاستعمارية؟ 

ماذا يفيد الإنسان في أعماقنا والإنسانية من حولنا لو تركنا للسلطة والسيطرة والقوة والاستغلال التغول والتغلغل فوق وعينا بإنسانيتنا؟  هل يمكن للوعي والحس بكوننا بشراً نتعايش ونقتسم خيرات الأرض ومقدساتها أن ينقذنا من الموت مرات التسلطية والقوى السياسية المهيمنة؟  وماذا عن هذا المستعمر الذي اغتصب الأرض والهوية والكيان؟  

كيف أصبحنا كأفراد صورة لأوطاننا المصلوبة على الخشبة؟ نعيش في دواخلنا شقاً عميقاً لا يعرف هوة للسكون، خصوصاً إذا صَدَقْنا القول والفعل بعيداً من السلطات.  فالسلطات مصالح. والمصالح شدٌ وجذب.  وفيزياء الشد والجذب تؤثر في الافراد كما الدول.  ففيما كان للبنان ماض فيه الكثير من إمارات اليوم. ذهبت الإمارات اليوم بعيداً وأبعد من لبنان الذي كان حلماً للأب المؤسس في يوم من الأيام عندما زاره في عاصمته المضيئة ومصايفه الجميلة والجذّابة. وككل نجاح يبقى محفوفاً بالمخاطر وحذر الانزلاق.  فالنجاح أصعب في الحفاظ عليه من الفشل وفاتورته أكبر واقصى. 

لذا لا بديل لإنسانيتنا اليوم من وعي الحقيقة البسيطة لكوننا جميعاً مهما اختلفنا.. اننا كلٌ واحد. ندور وسط دائرة واحدة.  ونعيش على كرة واحدة. وأننا اقرب لبعضنا البعض من كل مخيلاتنا.  وأوطاننا وطن واحد. وان انفصلنا فلا تفصلنا سوى رغبات "الأنا" الحادة، وقصر نظرها.  فما أوطاننا سوى حُبٌ وحَبٌ نزرعه كيفنا اقبلنا وأينما اتجهنا.  وطننا كالأزهار تنبت في كل ارض خصبة ترويها السماء وينابيع الحياة. 

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/8/2025 10:41:00 AM
فر الأسد من سوريا إلى روسيا قبل عام عندما سيطرت المعارضة بقيادة الرئيس الحالي الشرع على دمشق
المشرق-العربي 12/8/2025 5:03:00 PM
تُهدّد هذه الخطوة بمزيد من التفكك في اليمن.
النهار تتحقق 12/8/2025 10:43:00 AM
الصورة عتيقة، وألوانها باهتة. وبدا فيها الرئيس السوري المخلوع واقفا الى جانب لونا الشبل بفستان العرس. ماذا في التفاصيل؟ 
النهار تتحقق 12/8/2025 2:57:00 PM
الصورة حميمة، وزُعِم أنّها "مسرّبة من منزل ماهر الأسد"، شقيق الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد. ماذا وجدنا؟