مقالات
09-11-2025 | 21:52
الديموقراطية بين الحرية والفوضى
الديموقراطية ليست غاية بحد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق العدالة والاستقرار، ولا يمكن أن تمارس بمعزل عن الضوابط والقيم التي تحكمها.
تعبيرية.
محمد خراط - كاتب وناقد
في زمن باتت فيه الديموقراطية شعارا يتردد على ألسنة الجميع، من الحكومات إلى الأفراد، تبرز الحاجة إلى إعادة النظر في هذا المفهوم الذي كثيرا ما يستخدم بوصفه مقياساً للتقدم، في حين يغيب الوعي بمضمونه وحدوده. فالديموقراطية ليست وصفة جاهزة لتحقيق العدالة، ولا هي مفتاح للحرية، بل منظومة تتطلب وعياً ومسؤولية وتوازناً بين الحقوق والواجبات.
لا وجود لما يسمى بالديموقراطية المطلقة في أي دولة من دول العالم، لأن المجتمعات البشرية بطبيعتها غير متساوية في الوعي والمعرفة والخبرة. المبالغة في تطبيق الديمقراطية تفقدها معناها وتحولها إلى فوضى فكرية، إذ تمنح الجميع الحق في التعبير عن آرائهم في كل شأن، حتى في مجالات لا يمتلكون عنها أي معرفة. وعندما يصبح الرأي مساوياً للحقيقة، والخبرة مساوية للجهل، يتحول المجتمع إلى ساحة ضوضاء وعشوائية، ويصاب الخطاب العام بالتشويش والسطحية.
تجلت ملامح هذا الخلل بوضوح مع بروز وسائل التواصل الاجتماعي، التي منحت كل فرد منبراً مفتوحاً للتعبير عن رأيه دون رقيب أو معيار. ما كان في الماضي حكراً على النخب والمفكرين أصبح اليوم فضاء لكل من يمتلك حسابا. ومع اتساع هذا الفضاء الرقمي، ظهرت ظاهرة المؤثرين الذين يخوضون في قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية لا يمتلكون عنها سوى القليل من الفهم، ومع ذلك يصيغون رأي العامة ويوجهون النقاش العام. هنا تحولت حرية التعبير إلى أداة لتضليل الجماهير بدل توعيتهم، وفقدت الديمقراطية بوصلتها الأخلاقية والمعرفية.
ومن أخطر أشكال الديموقراطية وحرية التعبير، تلك التي تتقاطع مع السردية الدينية. فحين تفتح المنصات أمام الخطاب الديني غير المنظم، يتحول النقاش إلى صراع عقائدي لا تحكمه المعايير المجتمعية أو العلمية، بل الانتماءات الإيمانية والعاطفية. هذا النوع من الديمقراطية يعد الأخطر، لأنه يستند إلى قناعة مطلقة لا تقبل الجدل، ويمنح من يعبر عنها سلطة معنوية تفوق سلطة المنطق. وعندما تستخدم حرية التعبير لتغذية خطاب ديني متشدد أو منحاز، تصبح الديموقراطية وسيلة لتأجيج الانقسام لا لترسيخ التفاهم، إذ يسهل التأثير على الجمهور عبر مفاهيم دينية إيمانية يصعب نقدها أو معارضتها. وهكذا تستغل الديموقراطية لتكريس السرديات الدينية المتطرفة، بدل أن تكون مساحة للحوار والتنوير.
حين ننظر إلى التجربة اللبنانية، نرى مثالا حياً لما يمكن أن تفعله الديموقراطية المطلقة بدولة تخلت عن ضوابطها. فلبنان، رغم تمتعه بحرية التعبير والانفتاح السياسي، يعيش حالة من الانقسام والفوضى نتيجة غياب المرجعية الموحدة. كل طائفة تمتلك منبرا، وكل حزب يملك سرديته الخاصة، ما جعل الدولة عاجزة عن التحكم في السردية الوطنية والسياسية، وفاقدة لقدرتها على فرض القانون أو الحفاظ على هيبتها. هذه الفوضى في الممارسة الديموقراطية لم تثمر حرية حقيقية، بل أضعفت الدولة ومؤسساتها حتى بات وجودها شكلياً في كثير من المناسبات.
وفي المقابل، تمثل التجربة الإماراتية نموذجا مختلفاً تماماً، حيث اختارت الدولة تطبيق مفهوم متوازن للديمقراطية يقوم على حرية التعبير المسؤولة لا المطلقة. ورغم أن بعض الأصوات الخارجية تصف هذا النهج بأنه تقييد للحرية، إلا أنه في الحقيقة يعكس نضجا سياسيا يحافظ على السردية الوطنية، ويضمن أن تكون الكلمة في القضايا الكبرى بيد أهل الاختصاص والمعرفة. هذا التوازن بين الانفتاح والانضباط هو ما منح الإمارات استقرارها، ورسخ مكانتها كنموذج يحتذى به في الإدارة والحوكمة والتنمية.
إن الديموقراطية ليست غاية بحد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق العدالة والاستقرار، ولا يمكن أن تمارس بمعزل عن الضوابط والقيم التي تحكمها. فالديموقراطية المطلقة غير موجودة، وتطبيقها غير منطقي، لأنها إن تجاوزت حدود الوعي والمسؤولية تحولت من أداة للتقدم إلى سلاح يدمر المجتمعات من الداخل.
الحرية حق، لكنها لا تكتمل إلا بالمسؤولية، والديموقراطية قيمة، لكنها لا تزدهر إلا حين تمارس بعقل يحميها من نفسها.
العلامات الدالة
الأكثر قراءة
كتاب النهار
11/8/2025 9:11:00 AM
يكشف وزير أنه خلال الجلسة الحكومية، عرض قائد الجيش تجميد الخطة من باب الضغط على إسرائيل لوقف اعتداءاتها
تركيا
11/8/2025 3:48:00 PM
لدى القاتل سجل جنائي حافل رغم صغر سنه.
لبنان
11/8/2025 11:06:00 AM
بحسب وسائل إعلام إسرائيلية، يُسمع غولد وهو يقول بالعبرية: "أنا موجود الآن في مارينا بيروت في لبنان، شوفوا ما أجمل هذا المكان"
سياسة
11/7/2025 4:02:00 PM
بعد أن كتبت "بعلبك إيمتى؟" على تغريدة لأفيخاي... هذا ما جرى معها
نبض