خطة ترامب: جسر قصير بين الحرب والدولة وبلير بين الشلل واحتمال التقدم

تبدو الخطة الأميركية بشأن غزة أكثر من مجرد محاولة لوقف حرب دامية أو تحريك عملية سياسية جامدة. إنها محاولة لإعادة صياغة قواعد اللعبة برمّتها في المنطقة. ولعلّ أهم ما يميزها ليس تفاصيلها فحسب، بل شخصية من يتصدرها: دونالد ترامب الذي وضع نفسه على رأس "مجلس السلام"، في خطوة غير مسبوقة تُكسب المبادرة ثِقلاً سياسياً ومعنوياً.
يقوم جوهر الخطة على تشكيل إدارة انتقالية تكنوقراطية بإشراف دولي، تُدار وفق مبدأ "غزة لأهل غزة"، مع عودة تدريجية للسلطة الفلسطينية وصولًا إلى هدف الدولة الفلسطينية كحل نهائي. اللافت أن الخطة تتضمن نصًا صريحًا على أنه لن يُجبر أحد على مغادرة القطاع، في تراجع واضح عن طروحات التهجير وإعادة التوطين التي أثارت غضباً إقليمياً واسعاً. لكن العقبة الجوهرية تبقى في "من يحكم غزة": فـ"حماس" مرفوضة كحاكم، والسلطة الفلسطينية عاجزة في صورتها الحالية، ما يفتح الباب أمام سيناريو سلطة انتقالية تكنوقراطية، تدعمها هيئة إشراف عليا، تتولى التمويل والتفاوض وإعادة الإعمار، وتضمن في الوقت ذاته بقاء غزة خارج السيطرة الإسرائيلية المباشرة.
الصدفة جعلت موعدي مع توني بلير بعد نحو 12 ساعة من إعلان بلير خطته. اعتدنا أن نلتقي كل فترة على المستوى الشخصي بالطبع. كان الحديث كله حول خطة ترامب الذي في ما يبدو سيتولى هو بشكل أساسي تنفيذها على الأرض.
يعود توني بلير إلى المشهد الشرق أوسطي، وهو الرجل الذي عاش تجربة إيرلندا الشمالية وحقق نجاحاً، شكّك في إمكانية حدوثه، في البداية، كثيرون. وهو يعرف تفاصيل الصراع العربي – الإسرائيلي. يعود اليوم كعنصر وصل بين العواصم الكبرى. يمتلك شبكة علاقات تمتد من واشنطن إلى الخليج، وخبرة في ملفات الحكم والإصلاح الفلسطيني. لكن نجاحه هذه المرة مشروط بأن يتجاوز أخطاء "اللجنة الرباعية" التي جعلت منه مبعوثاً بلا أدوات كما يعتقد؛ فالمطلوب الآن دور عملي يمتلك فيه أدوات القرار والتنفيذ لا مجرد دور استشاري.
مع ذلك، تبقى الصورة الذهنية عن بلير في العالم العربي عبئاً ثقيلاً. فما زال اسمه مرتبطاً في الذاكرة العربية بحرب العراق، والشارع الفلسطيني ينظر بريبة لأي دور قد يُفهم على أنه وصاية جديدة. وهنا يكمن التحدي الحقيقي في أن يكون حضوره كمدير وضامن لمرحلة انتقالية تُبقي الفلسطينيين في الواجهة، وتُشرك العرب في القرار والتمويل والرقابة، لا كـ "مندوب سامٍ" يفرض حلولاً من الخارج.
العقبات أمام الخطة هائلة. قبول "حماس" أو رفضها قد ينسف المسار منذ البداية، وإسرائيل أمام خيارين لا ثالث لهما: إما استمرار السيطرة المباشرة بما يجلب عزلة سياسية وإقليمية متزايدة، وإما الانخراط في مسار يُزيح "حماس"، ويفتح الباب أمام استقرار القطاع والتطبيع الإقليمي. أما السلطة الفلسطينية فتعاني من أزمة شرعية عميقة تجعلها غير قادرة على استلام الإدارة النهائية من دون إصلاح حقيقي. وعلى الجانب العربي، تبدو مصر والأردن معنيّتين بملف الحدود واللاجئين، فيما يملك الخليج وأوروبا المال، لكن بشروط الحوكمة والشفافية وربط التمويل بإنجازات ملموسة.
جدول ترامب الزمني يبدو طموحاً إلى حدّ المخاطرة: إطلاق سراح الرهائن خلال 72 ساعة، وتدمير أنفاق وتسليم أسلحة في أسابيع. التجربة تقول إن مثل هذه البنود تحتاج إلى تسلسل طويل: أولاً ضمان أمن إنساني سريع (ممرات، غذاء، علاج، كهرباء وماء)، ثم ترتيبات أمنية متدرجة، يليها إشراك تكنوقراط فلسطينيين في إدارة الخدمات، وصولاً إلى مسار سياسي مشروط بالأداء. وحتى تبادل الأسرى والمعتقلين بأعداد ضخمة يتطلب صفقات على مراحل مع ضمانات وتحكيم دولي.
مع كل هذه التحديات، ثمة وصفة نجاح ممكنة إذا ما روعيت عدة شروط: أن تكون الملكية فلسطينية واضحة أمام الناس، وأن تكون الشراكة العربية صريحة في التمويل والأمن، وأن يُدار التمويل بشفافية كاملة، وأن يُعطى اقتصاد الناس الأولوية لإنتاج "شرعية نتائج" ملموسة، وأن يكون هناك خط نهاية سياسي واضح يقود نحو دولة فلسطينية، لا نحو وصاية مفتوحة.
يبقى السؤال الأهم: هل توني بلير إضافة أم سيكون عبئاً؟ الإجابة مرتبطة بكيفية أدائه، لا باسمه. سيكون إضافة إذا فرض الشفافية وربط الأموال بالإنجاز، وأدار العملية بمنطق "بناء الثقة أولاً" على طريقة إيرلندا الشمالية، وحوّل الرؤية إلى وقائع ملموسة على الأرض. وسيتحول إلى عبء إذا بدا "مندوباً سامياً" يتجاوز الفلسطينيين، أو أُسقطت الخطة لتبدو كأنها إنقاذ سياسي لحكومة إسرائيل أكثر من كونها إنقاذاً إنسانياً لغزة. وما أستطيع تأكيده بناءً على لقائنا الأخير هو أنه يأتي محملاً بالإحساس بالمسؤولية والفهم لأصول المشكلات والميل لتحقيق أهداف الجميع بما فيها هدف الفلسطينيين في الوصول إلى حلم دولتهم.
قد تكون خطة ترامب مفترقاً حقيقياً إذا تحوّلت إلى جسر قصير ومتين بين الحرب والدولة بتكنوقراطية تدير، وعرب يضمنون، وفلسطينيين يتصدرون، وأموال تُراقب، وأمن انتقالي لا يعيد احتلالاً ولا يترك فراغاً. في هذا الإطار، يصبح بلير عاملاً مرجّحاً، لا عنواناً بحد ذاته. بين الشلل واحتمال التقدم، تميل الكفة إلى الثاني بشرط أن تُكتب على بوابة المرحلة الجديدة عبارة واحدة: غزة تُدار لأهلها وبأفق دولتهم، لا بوصاية عليهم.