الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

إصرار على ترميم "مغر الطحين"... عشرات المغاور والكهوف المتداخلة

المصدر: "النهار"
بعلبك ـ وسام اسماعيل
إصرار على ترميم "مغر الطحين"... عشرات المغاور والكهوف المتداخلة
إصرار على ترميم "مغر الطحين"... عشرات المغاور والكهوف المتداخلة
A+ A-

توجهتُ إلى "مغر الطحين" داخل أحد أحياء مدينة بعلبك الشعبية المكتظة بالمباني السكنية لألتقي خيرة من الشباب البعلبكيين تحت مسمى "الجمعية اللبنانية للتعايش والإنماء" (الدكتور حسين فداء حسن ومحمد سعد الله صلح) لكتابة مقال عن هذا الموقع الأثري القديم المهمل الذي يقع في الحيّ الذي ترعرعتُ فيه، وحوّله الإهمال مسرباً للمياه الآسنة وزرائب للحيوانات؛ وكانت تحرّكت الجهات الرسمية منذ سنوات واكتفت فقط بإفراغ الكهوف من الحيوانات والجياد.



وما إن وصلتُ إلى المكان الذي أعرفه ويعرفه جميع البعلبكيين، وكأنها المرة الأولى التي أزوره فيها. في الحقيقة، لم أكن متحمساً في البداية لزيارة هذا المكان لمعرفتي المسبقة بما يحويه، وخوفاً من الروائح الكريهة التي تنبعث منه طوال عقود جراء أقنية الصرف الصحي والنفايات التي تنتشر فيه (حيث عمد الاهالي إلى تحويل المياه الآسنة لكل بيت إلى الكهف والسراديب وداخل المغر ليتحول هذا المقلع الأثري إلى جور صحية لسنوات عديدة تنبعث منها الروائح الكريهة).

قبل الوصول إلى الموقع، خليّة نحل من الشبان والشابات المتطوعين يعملون تحت أشعة شمس تموز على تنفيذ رسومات وألوان على جدران المحلة، وتنظيف الأرصفة التي تصل إلى الموقع، تضيف البهجة وتمتّع النظر لتحسين جمالية المحلة، من ضمنهم هند وريما أبو إسبر (رسامتان من بعلبك ومقيمتان في بيروت)، وما إن وقعت عيني على "مغر الطحين" حتى سُحرتُ بما شاهدته وكأنها المرة الأولى التي أزوره فيها، وبدأت أعلم جيداً إصرار هؤلاء الشبان البعلبكيين الذين تحسّست منهم فيضاً من الحب لمدينتهم وأهلها، وإعطاءهم كل الوقت لترميم هذا الموقع الاثري المكتشف.

أحد أفراد الجمعية حسين حسن شرح لنا بعض تفاصيل هذا المكان الذي استُخدم كمقلع روماني أعيد استخدامه في نهاية الفترة الرومانية كمدافن كهفية نُحتت في صخر؛ وارتبطت تسميته بـ "الطحين" نظراً لطبيعته الكلسية الهشّة؛ فقد استُعيرت التسمية من اسم الصخور الكلسية البيضاء التي تتكوّن منها الكهوف المعروفة، إذ عند تفتتها تشبه دقيق القمح أي "الطحين".



داخل هذا المكان الذي تمكّنا للمرة الأولى من دخوله بعد عملية الترميم (حيث أجرت "النهار" تحقيقاً سابقاً لها في العام ٢٠١٠ عن الموقع، وكانت المياه الآسنة قد منعت دخولنا واستطعنا بصعوبة بالغة أن نبقى دقائق قليلة في داخله لالتقاط الصور نتيجة الروائح التي تنتشر في أرجائه). رحت أنظر بدهشة، وسط إنارة رائعة للمكان، إلى المزيد من الأشكال الهندسية التي نحتت بالصخر، والغرف الموزعة، والمقابر داخل الصخور، والزخارف الهندسية على طريقة ما كان معتمداً منذ آلاف السنين.

ثمة كهوف مستطيلة أو مربعة، أو دائرية، كما رأينا عدداً من الرسوم الهندسية في الأبواب كالنصف الدائري، والمستطيل، أو مدفناً يعود للفترة الرومانية وهو " الأركسوليا" أي الدفن تحت أقواس منحوتة في الصخر ضمن نواويس صخرية منحوتة أو توابيت. ويتألف "مغر الطحين" من عشرات المغاور والكهوف المتداخلة في ما بينها بسراديب محفورة في الصخر ضمن أنفاق وأبواب لا تخلو من النمط الهندسي المعتمد قديماً.



مشروع ترميم وتأهيل مغر الطحين الأثري المنفذ من قبل برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (un_habitat) بالتعاون مع بلدية بعلبك والجمعية اللبنانية للتعايش والإنماء، وبتمويل من الوكالة الإيطالية للتنمية والتعاون، وبالتنسيق الكامل مع المديرية العامة للآثار، نال استحسان أهالي المدينة، فبات لهم معلم أثري جديد لا يقل أهمية عن قلعة بعلبك الأثرية، وسيكون متاحاً للزوار في ١٤ من الشهر الجاري، أي موعد افتتاح هذا المعلم التاريخي للمرة الأولى بتنظيم برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (un_habitat) بعد عملية ترميم دقيقة خضع لها، إلى جانب مكتشفات جديدة نفّذها المتابعون لعملية استكشاف هذا الموقع الأثري من قبل الجمعية اللبنانية للتعايش والإنماء الذين بادروا إلى تحقيق هذا الحلم البعلبكي وتحويله إلى حقيقة عبر المنظمات الدولية، والمتابعة الحثيثة من رئيس بلدية بعلبك فؤاد بلوق الذي كان حريصاً على نجاح مهام هؤلاد الشباب وداعماً مطلقاً لهم.

إن القيميين على المشروع يستحقون كل التقدير إذ حوّلوا مغر الطحين الذي كان عبارة عن مكان للصرف الصحي إلى مكان أثري هام من خلال عملية تنظيف وترميم هذا الموقع الذي كان يعاني من ضرر كبير، وكان يشكّل عائقاً لمديرية الآثار من دراسة هذه المنطقة، وتالياً لا يمكن للجهات المانحة التمويل لعدم وجود دراسة عن المغر (من ضمنها بعثة ألمانية كانت زارت الموقع في العام ٢٠١٠ وحاولت استخراج رسم طوبوغرافي للموقع، غير أن المياه الآسنة فيه أعاقت عمل الفريق الذي لم يتمكن من الدخول إليه).

من هنا كان التحدي الأكبر، كما يؤكد حسن، ويقول: "نجحنا في إزالة الصرف الصحي وعملنا على استخراج ٢٥٠ شاحنة محملة بالنفايات المختلفة، كذلك عملنا على تأهيل المنازل المحيطة بالموقع لتحسين جمالية الحيّ، وتزفيت الشارع المؤدي إليه، في انتظار يوم الافتتاح الأحد المقبل، عند الساعة السادسة مساء، والذي سيكون برعاية وزير الثقافة الدكتور محمد داود، وسيتم عرض فيلم قصير يلقي الضوء على تفاصيل إنجاز المشروع.

وعن دور الجمعية، يلفت حسن إلى أنها عبارة عن مجموعة ناشطين من مدينة بعلبك،" فبعد نجاحهم في تحقيق ساحة العذراء وغيرها، وجدنا أنه من باب المسؤولية ووفاء لمدينتنا كان لا بد من رفع الضرر عن هذا الموقع الاثري والحي المحيط به وسط غياب المبادرات لتأهيله طوال عقود خلت، فمعظم سكان المحلة لا يعرفون أهميته الاثرية ويجهلون تاريخه، فهم يعتبرونه كهفاً يتألف من فروع عدة كان يستعمل للسكن ويؤدي إلى أطراف المدينة".

وأكد أن العمل جاء تحت شعار (مغر الطحين... كنز بعلبك المنسيّ) حيث رأت الجمعية أن من أولى حاجات الناس هي الإنماء لما يساهم المشروع في إنماء المحلة، وتميز أنه خضع لمناقصة تمكّن منها مهندسون من مدينة بعلبك حيث أعاد المشروع وصل المنازل المحيطة بالمغر بتمديد شبكة صرف صحي جديدة ووصلها بالشبكة العامة، وإزالة التعديات والنفايات من الموقع الأثري، ومعالجته من الترسبات، وتركيب إنارة ليلية، وتزفيت وتجميل المنازل المحيطة.

وعن كلفة المشروع، أكد حسن أنها بلغت 180 ألف دولار أميركي، وكانت الجمعية تمكّنت بعيداً عن المبلغ المرصد للمشروع، من جمع مبلغ مالي وتجميل الجدران المحيطة بالمعلم مع الرسم عليها من قبل شبان متطوعين لهذا العمل.

وعن الصعوبات التي واجهتهم؟ أكد أن صعوبات كبيرة واجهتهم في بداية عملهم نظراً لأن أهالي المحلة فقدت الثقة بأي عمل تحسيني جراء إهمال هذا المكان منذ عقود بسبب الحرب التي غيّبت الدولة عن هذا المكان، والبنيان العشوائي الذي شهده وسط غياب خطة إنمائية شاملة من قبل المسؤولين، غير أنهم اليوم باتوا يدنا الثانية في نجاح هذا العمل لما شاهدوه من انعكاس إيجابي لهم، فكيف لمكان كان مصدراً للروائح الكريهة بات منفذاً لهم ولجمالية المحلة.

وشكر جميع من ساهم في نجاح المشروع خصوصاً تفاني المتعهدَين المهندسَين عمر صلح وربيع الرفاعي بتنفيذهما الأعمال بدقة.

بدوره، أكد محمد صلح باسم الجمعية أن الأخيرة عازمة على أن تحقق في المرحلة المقبلة المزيد من الاكتشافات في الموقع الذي لا نهاية له، كما صممت على الخروج إلى شوارع المحلة وترميمها من الخارج كعملية تجميلية لتستقبل الزوار لأول مرة بحلّة جميلة وتعكس الصورة الجميلة لهذا المكان الاثري، وتثبتها على الخارطة السياحية والثقافية. وشكرَ "مديرية الآثار التي كانت متجاوبة معنا خصوصاً بشخص مديرة الآثار في البقاع لور سلوم ومواكبتها للاعمال".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم