الثلاثاء - 16 نيسان 2024

إعلان

كانّ ٧٢ - إيليا سليمان فلسطيني ولكن طريف!

المصدر: "النهار"
كانّ ٧٢ - إيليا سليمان فلسطيني ولكن طريف!
كانّ ٧٢ - إيليا سليمان فلسطيني ولكن طريف!
A+ A-

عندما نشاهد أفلام المخرج الفلسطيني إيليا سليمان، وتحديداً الأخير منها، نفهم لماذا لا ينجز عملاً جديداً كلّ عامين أو ثلاثة كزملاء عديدين له، اذ ان آخر نص قدّمه كان في العام ٢٠٠٩. فالعمل السينمائي عنده مرتبط ارتباطاً عميقاً بالتجربة الحياتية التي عاشها. سليمان يتحدّث عن نفسه في "لا بد انها الجنّة"، الفائز بجائزة خاصة في مسابقة مهرجان كانّ (١٤ - ٢٥ الجاري) أكثر من أي وقت مضى، لكنه ليس فيللنني، بمعنى انه لم يبتدع سيرته. بل عاشها على أوسع نطاق، بكلّ تفاصيلها المحزنة والمبهجة، بحلوها ومرّها، بصغيرها وكبيرها، قبل ان نراها على الشاشة بعد مخاض طويل. في آخر مقابلة لي معه، كان يقول: "لا أعمل على قصّة من بدايتها حتى نهايتها، بل على لوحات؛ كلّ منها يتطلّب نوعاً من الشكّ الذي يبلغ مرحلة تقرّر فيها إن كان سيُصوَّر أم لا".

في "لا بد انها الجنّة"، يبحث سليمان عن وطن سينمائي يحضنه. يترك مسقطه الناصرة ذات يوم، حيث الشخصيات الغريبة والممارسات التي لم تتغير كثيراً منذ "يد إلهية" (٢٠٠٢) ليحط في باريس. باريس أمام كاميرا سليمان، هذه من أجمل الأشياء التي حلّت بها سينمائياً منذ سنوات. انها عين الغريب الحكيم (يعيش فيها منذ سنوات عدة). لا يختلف تصويره لها عن تصويره لأزقة مدينته المحتلة. مع الفرق انها الجنّة في المنظور الفلسطيني العربي الهارب من الجحيم. فلا نعرف في أي لحظة ومن أي مكان سينبعث الخطر. هناك حالة انتظار، بلورها سليمان في أفلامه السابقة، نقلها معه إلى باريس. اضافة إلى مواقف عبثية من وحي سينماه نفسها تذكّرنا بروي أندرسون: شرطة ودبّابات وعناصر اسعاف ونساء مسنّات في باريسٍ خالية من البشر والسيارات وزحمة السيّاح المتواصلة. هذه المَشاهد (تصوير سفيان الفاني) تثير الاعجاب فعلاً وتستحق ان نرفع لها القبعة.

اذاً، يحطّ صديقنا في دولة غربية، محاولاً إيجاد موطئ قدم (سينمائية) جديد له. آه، نسينا ان نقول أيضاً انه يريد إنجاز فيلم. بلا أي كلمة، كبطل من أبطال الأفلام الصامتة، يتجول في شوارع عاصمة الأنوار، يجلس في مقاهيها، يضع نفسه في وضعية المراقب الذي يمل. يتأمل كيف تسير الحياة بهدوئها وتكرارها، كنهر يصب في البحر. في هذه اللحظة، قد يسأل الواحد منّا: ما الفرق بين باريس والناصرة لشخصٍ وطنه في رأسه، يحمله أينما حلّ. هكذا نفهم إيليا سليمان: مواطن من العالم. من كثرة ما تطارده فكرة فلسطين، أصبح يجدها في كلّ مكان. في حوار سابق معي، قال سليمان ان العالم كله "تفلسطن". هذا بالضبط ما يصوّره هنا.

يبلغ سليمان هنا ذروة فنّ التكثيف والاختزال. منذ الافتتاحية الساخرة حتى الخاتمة الميلانكولية في مرقص ليلي على أنغام "عربيٌ أنا"، كلّ مشهد يقول شيئاً ما، وأحياناً لا يحتاج إلى أكثر من دقيقة لقوله. ببضع لوحات، يسدد حسابه مع الناصرة: شيخ يروي حكايات سوريالية، شرطيان إسرائيليان يطاردان سكّيراً، شباب يركضون في الشارع حاملين العصي في أياديهم… لا شيء جديداً تحت الشمس منذ المرة الأخيرة، لكن العودة على الأقل مرة كلّ عقد إلى هناك ضرورية لندرك ان لا شيء تغير.

لا يحمل الفيلم رسالة أو قضية سياسية بالمعنى المستهلك، تكفيه قضية الفرد، ضياعه، تسكّعه، هذا الذي يجبر على حمل الذكرى المرتبطة بالوطن أينما حل، وهويته الممزّقة، ونظرة الآخرين اليه. لا قضية أكبر من هذه. وسليمان يعلم شيئاً عنها. أنصار القبضات المرفوعة قد يخيّبهم فيلم لا يدين ولا يستنكر، ولا يحسم مواقفه أو يقدّم خطباً رنانة. هؤلاء اعتادوا على "سينما رد الفعل"، التي ينبذها سليمان. خلافاً لسينمائيين كثر، فهم ان السخرية من الذات أمضى الأسلحة في مواجهة النسيان.

لا يتفوه سليمان في الفيلم الا بجملتين، قائلاً كلّ شيء بعينيه الحائرتين المتفاجئتين. ولكن كلّ شيء كأنه ناطق باسمه. حتى الطير الذي يحط على طاولته يقول شيئاً عنه. ولعل واحدة من أجمل لحظات الفيلم هي عندما يقدّمه الممثّل غايل غارثيا برنال لإحدى المنتجات النيويوركيات قائلاً لها: "أعرّفك على إيليا سليمان، مخرج فلسطيني لكن أفلامه طريفة". في مشهد كهذا، يقول سليمان توقّعات الآخرين منه التي تثقل كاهله، هو الذي مثل العديد من السينمائيين العرب، “مخرج أفلامه”، وليس مخرجاً بالمطلق. لكلٍّ تصوره الخاص لهويته التي يجرجرها خلفه من بلد إلى بلد. ربما لهذا يذكّرنا رجل يتكئ على بار في نيويورك بأن "الجميع يسكر لكي ينسى، باستثناء الفلسطينيين يسكرون ليتذكّروا”.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم