الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

وديع سعادة... صوت برزخي يؤنسن العابر والمحذوف

المصدر: "النهار"
أحمد الشيخاوي
وديع سعادة... صوت برزخي يؤنسن العابر والمحذوف
وديع سعادة... صوت برزخي يؤنسن العابر والمحذوف
A+ A-

أفتتح بسؤال ينمّ عن سفسطة مكشوفة، طالما لاكته وتلوكه الألسن. قد يكون ذلك ضرباً من تنكيت، أو مناطحةً لراهن اليأس، أو سخريةً لاذعةً: أيهما الأسبق، البيضة أم الدجاجة؟ وحتّى لا يبدو كلامي بعيداً عمّا حفّزني على تحرير هذه الورقة، بغرض الاحتفاء بأحد فرسان الأركانة العالمية للشعر، ألج مباشرة في صلب الموضوع، وأشير إلى أن هذا التساؤل ما هو إلاّ توأم أسئلة موجعة أخرى، تثوّرها هذه التسمية التي انتقاها بيت الشعر في المغرب، لجوائزه، منذ أعوام، واستفسارات ملحّة، من قبيل: أيهما أولى بشرف نسب هذه الجائزة التي يسيل لها رضاب الكثيرين، أهي الزيتونة المزهوّة بمنظومة ما أصبغ عليها المقدّس من ثناء ومثالية، أم الأركانة؟ على عزلتها وأبجدية إيحاءاتها المختزلة في ما يرجّح النخبوية، هذه الشجرة المسكينة التي تكابد ندرتها وطرفاويتها، أقصد عزلتها، وفتح صفحاتها الظامئة على جود السماء وسخاء القطر، باعتماد منطق الأسبقية التاريخية، ومعادلات المفاضلة الوجودية. وكي أزيل اللبس تماماً، أقتضب ما أودّ الذهاب إليه، وأقرّ بأنّ ما قصدته من هذه الفذلكة، يظل مجرّد حدس لا أكثر، وأرجو ألاّ تكون هواجسي قد ذهبت بي أقصى ما يكون، أصيغ التساؤل بطريقة أخرى فأقول: أفي التسمية نزوع عنصريّ أو ما شابه؟ أعلم أنها مجرد تسمية، وأرجو أن يكون المراد منها بريئاً وغير مقصود، وبمعزل عن النوايا السيّئة المبيّتة التي يحاول أصحابها التكريس لمركزية ثقافية تلغي الأصوات الهامشية جملةً وتفصيلاً، كون السياسة الرسميّة وسمت، عبر أجيال، الثقافة بعار اختراق المؤسسة من الخارج، ولم تزل، إلاّ في ما شذّ من حالات.

آمل ذلك، ويبدد شكوكي، سنة عن أخرى، هؤلاء القادمون من حساسيّات وتجارب بعيدة، سواء من داخل المغرب أو خارجه، ليحصدوا جوائز الأركانة. وحسب إلمامي الأدبي ببعضهم، أعترف أنهم هم من أكسبوا مثل هذا الجوائز شرف الانتساب والإضافة، لا العكس.

محمد بنطلحة الفائز بها في دورتها الحادية عشرة، وديع سعادة فارس الأركانة في أجدد طبعاتها، وأسماء أخرى جديرة بالاهتمام والاحترام.

المغترب #وديع_سعادة المزداد سنة 1948، المنحدر من قرية شبطين، شمال لبنان، وله في الشعر مجاميع كثيرة، هذا جرد لها: ليس للمساء إخوة 1981، المياه المياه1983، رجل في هواء مستعمل يقد ويفكر في الحيوانات 1985، مقعد راكب غادر الباص1987، بسبب غيمة على الأرجح 1992، محاولة وصل ضفتين بصوت1997، نصّ الغياب1999، غبار 2001، رتق الهواء 2006، تركيب آخر لحياة وديع سعادة 2006، الأعمال الشعرية الكاملة 2008، من أخذ النظرة التي تركتها أمام الباب 2011، قل للعابر أن يعود، هنا نسي ظلّه 2012.

أخاله استحقّ التتويج، لما يمتلكه من طاقة وروح تشرب كل ما هو حداثي، بحيث نلفاه وقد جدّد في المعنى واللغة والصور والرؤى، وركّب حياة المبدع المنشطر بين معاناة الاغتراب وهواجس الانتماء، من داخل حياة الشرقي المعتقد بقدراته والمؤهّلة لمجابهة كل التحديات وتجاوزات الراهن.

يقول معاتباً في الكائن، تجديفه النضالي والحياتي والإبداعي بذاتين متضاربتين، تشاكسان لحظة العدمية والعبث، وتغدقان بإرهاصات العبور:

[نجلس

ونضع إصبعين على البار،

وداعًا إني أشيخ،

معي في صدري ضلوع ضعيفة، كانت ترغب يومًا أن تلعب الجمباز،

معي رأس بكامل تجاويفه،

معي يدان صامتتان أرافقها كل النهار، ثم نتصافح ونذهب إلى النوم.

ماذا يفعل كسولٌ على مدى أربعين عامًا بهذه الأعضاء؟

وداعًا](1).

يهمس مُمسْرحاً، لعنة الأبد، ومواقف المجاملات التي توهمنا بها المرايا الروحية، في زمن يلفّه الزيف، يتّهم وجودية الكائن المولع بعنجهيته تسربل النرجسي بصوت نافذ يقصي ما عداه، ويحاول أن يلوّن العالم على امتداده بصداه هو فقط.

يهرب شاعرنا من عالم البشر إلى آفاق موغلة في البرزخية، تسعفه بأنسنة ما يمتدّ عن المركزية الآدمية، ويكمّلها من أكباد رطبة وصلصال نابض، وجمادات وأشياء حتّى.

[لا يمكنه فعل شيء.

الهرَّة وحدها تجلس قربه،

يدغدغها، يداعب صوفها الناعم، يقول لها كلمة

لا تعني شيئًا، ولكن فقط كي يسمع صوته](2).

وبذات المعنى، يبوح كذلك:

[حين ذهبوا لم يقفلوا أبوابهم بالمفاتيح،

تركوا أيضًا ماءً في الجرن، للبلبل والكلب الغريب الذي تعوّد أن يزورهم،

وبقي على طاولاتهم خبز، وإبريق، وعلبة سردين](3).

في موقع آخر يرتّل سعادة تفاصيل الغربة المجنونة، مدبّجاً الخطاب بقران فانتازي للعجائبي والفلسفي، يقول:

[الباب وحده في الليل،

والليل في العاصفة،

والعاصفة نحلةٌ تحوم حول ذراعي،

وذراعي مستندة

على سطح سفينة،

ذراعٌ بدأتْ زحفها منذ أول ريح حتى وصلتْ إليَّ،

وبما أني وصلتُ أخيرًا،

بما أني وصلتُ إلى قريتي

في صندوق كان قلبًا](4).

يقول في ذات السياق:

[ومن فمي الذي تستلقي فيه صرخات

الذي تستلقي فيه أمتعة رخيصة،

تخرج كلمة وداع صغيرة

لا يسمعها حتى الجالسون في أذني](5).

بذلك، فهو يغدر بنظرة ثاقبة، نظرة المتلصص من كوّة برزخية، غرّيد ينتصر للحياة من خلال معجم استدعاء الموتى، يجترح مفارقات الخلود من خلال أنسنة العابر والمحذوف، يلبس زمانه بالمقلوب، يصمت لنقرأه في كينونة تعتقد بتعدد وتكامل وتجاور الأصوات.

كذلك هو الشاعر وديع سعادة المباغت بنصفه المحذوف، أوراق العذرية في بياض الذات والغربة والحياة.

هامش:

(1) من نص "مقعد راكب غادر الباص".

(2) من نص"الربيع أخضر، السماء زرقاء".

(3) من نص "هجرة".

(4) من نص "العودة".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم