الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

منى وفؤاد من الاوائل: دروز تزوجوا مسيحيين تحت القصف... الحب أقوى من الحرب

المصدر: "النهار"
مجد بو مجاهد
مجد بو مجاهد
منى وفؤاد من الاوائل: دروز تزوجوا مسيحيين تحت القصف... الحب أقوى من الحرب
منى وفؤاد من الاوائل: دروز تزوجوا مسيحيين تحت القصف... الحب أقوى من الحرب
A+ A-

ركلت "بُعبُع" الحرب برجليها. تحت القذائف، كانت منى تقي الدين اميوني تجتاز الطريق مشياً امام حواجز منطقة المتحف، وتستقل التاكسي لتصل الى الجامعة الاميركية في بيروت وتؤمّن دروسها. وفي زمن الذبح على الهوية، انتمت الصبية الدرزية الشقراء، ابنة الشيخ خليل تقي الدين الى عالمٍ آخر. ترفع معنويات الطلاب، وتحضّهم على المحبة الخالصة المتحرّرة من أي قيد. إنها المحبّة نفسها التي كلّلتها عروس شابٍ مسيحيّ. وفي أحلك أيام التفرقة، كانت تتلقى رسائل من شبان وشابات لبنانيين، دروز في اغلبيتهم، يعربون فيها عن امتنانهم لها، لأنها أقدمت على الخطوة الجبارة التي ما كانت قلوبهم قادرة على الخفقان لأجلها في وقتها. وكانوا يكتبون لها ان اهلهم باركوا زواجهم من مسيحيين بعدما اتخذوا منها قدوة. ولعلّ أكثر من تأثر بمنى، شقيقتها ليلى، التي تزوّجت من المحامي المسيحي توما عريضة بعد مضي 14 سنة على زواج شقيقتها. واذا ما اردنا البحث عن اسماءٍ تبنت الحب في زمن الحرب، نجد ايضاً رجالاً من وجهاء المجتمع الدرزي، وفي مقدمهم العميد شفيق ابو كروم، الذي تزوج بمسيحية، وتراه اليوم وعائلته في كندا. واللائحة طويلة، من المتحابين في الحرب وبعدها، والذين صار اسهل عليهم اللجوء الى خيار الزواج المدني. لكن الفترة الزمنية التي تزوجت فيها ابنة خليل تقي الدين، كانت اخطر من زمن الحرب نفسه. ذلك انها عندما احبّت "مستر اميوني" في خمسينيات القرن الماضي، لم يكن ايّ من ابناء طائفة الموحدين الدروز يتجرّأ على التفكير، ولو في الحلم، بإقامة علاقة حبٍّ بجناحين (درزي - مسيحي). وما لبثت احداث سنة 58 ان اثبتت ذلك يقيناً.

واذا ما اردنا فلفشة الصفحة الاولى من القصة، نجد ان منى وفؤاد تعارفا، نتيجة صداقة كانت تجمع الأخير وعمّ منى الاصغر، الشيخ نديم تقي الدين. وكان فؤاد "العزابي" الوحيد في الشلة، ولا بد من اختيار فتاة اضافية لتكتمل المجموعة. فوقع الاختيار على منى، ابنة الثمانية عشر ربيعاً، لمرافقتهم في السهرات. يوماً بعد يوم، توطّدت العلاقة، وصارا يتحاكيان عبر الهاتف، ويلتقيان اكثر، فتحابا، حتى آن أوان المصارحة. "يا بابا انا بحب شاب مسيحي"، صارحت منى الشيخ خليل بعد عودته من روسيا. فضحك الوالد، وتأمل ابنته قائلاً: "يا منى ليش عم تقولي انو الشب مسيحي؟ انا شو بتفرق عندي اذا مسيحي او مسلم، المهم يكون شب منيح. خبّريني عنو". مضت أشهر، تمنى فيها "سعادة السفير" على ابنته عدم التحدّث الى فؤاد. أراد التقصي عنه شخصياً، ليعلم من هو هذا الشاب الذي هزّ قلب ابنته وكيانها وجعلها تتجرأ على نطق ما قالته امامه. وما لبث ان عاد اليها بالجواب، فمازحها: "يا منى سألت عنو، هالشب "توكو" الوحيد انو مسيحي!". وعقّب، واصفاً اياه بـ"الشاب الممتاز والذكي والمثقّف، عمله جيد واخلاقه عالية". وأكّد لها، ان لا مانع لديه في تزويجهما، متمنياً لهما التوفيق.


لم تكن ترتيبات الزفاف سهلة. كيف ستتجرأ العائلة على التصريح ان علاقة حبٍّ درزية-مسيحية على وشك ان تتكلّل بزواج؟ جلبت العائلة الخياّطة الى المنزل، فحاكت جهاز الزفاف في الخفاء. وكانت والدة منى تتكبّد عناء اخفاء الخيّاطة واقمشتها، كلّما طرق زائر الباب. وشاءت المصادفة ان ذهب الشيخ خليل الى فرنسا ليمثّل لبنان في الامم المتحدة، حيث كانت الاجتماعات تعقد في باريس عوض نيويورك. كانت منى حينها قد نالت البكالوريا، وجاء الخبر من الوالد، انه يمكنها السفر الى فرنسا. اجتمع شمل المتحابين في باريس، لكن الشيخ خليل طلب من فؤاد ان يعلن اسلامه شكلياً، ذلك ان زواج الدروز من المسلمين، رغم صعوبته، كان في حينها اسهل بكثير من زواجهم من المسيحيين. وفي اليوم التالي، وزّع الشيخ خليل صور زفاف منى وفؤاد على الصحف اللبنانية، بعد مراسم زفاف شكلية اقامها في السفارة اللبنانية في باريس في حضور السفير احمد الداعوق آنذاك. فعل ذلك لأنه لم يكن يريد ان يقال ان "ابنة الشيخ خليل تقي الدين تزوّجت خطيفة".

تخبرنا ندى علم الدين، شقيقة منى، ان وقع الخبر لم يكن سهلاً في الشوف. اذ ان اكثر من شاب درزي كان "حاطط عينو على منى". المخاوف كانت كبيرة، خصوصاً ان تهديدات مباشرة تلقّتها العائلة بالتصفية. "قالوا لنا، نحنا ما منحكي حكي، نحنا منقوّص!". دفعت هذه الظروف الشيخ خليل الى وضع حارس على باب المنزل لمدّة ثلاثة أشهر ونيّف. كانت منى في هذا الوقت قد انتقلت وزوجها الى لندن، وعقدا زواجاً كنسياً هناك، ذلك انها كانت تريد للاولاد ان يكبروا على اسم والدهم، ولم تكن ظروف الزواج المدني قائمة وسهلة، كما هي اليوم. وبعدما عاد العروسان الى لبنان، قطنت منى في منزل حميها في الأشرفية، ونسي المتخاصمون زعلهم، واتى وفدٌ من الدروز للتهنئة والمباركة للعروسين، بمن فيهم اقارب بيت تقي الدين. وبعد أشهرٍ قليلة، شيّد فؤاد الفيلا التي كان يبنيها في اليرزة، وانتقلا الى العيش فيها، وانجبا 3 اولاد، بنتين وصبيا، وعاشا بسلام. وتقول علم الدين ان "منى وفؤاد اتّحدا في تجسيد مفهوم الله لاولادهم من دون الغوص في التفاصيل، وكانوا يقولون لهم صلوا لربنا وابتعدوا عن الاعمال السيئة وساعدوا الآخرين واحبوهم ولا تكذبوا او تسرقوا". وتتخيل امام عينها صهرها فؤاد الذي كان يمضي ايامه في قراءة الكتب ويتشاركها مع منى، وعن يمينه قاموس كبير وزنه 3 كيلوغرامات.


موت فؤاد وكآبة منى

يوم اندلعت الحرب سنة 1975، اقفل فؤاد مكتب ادارة الاعمال في الاشرفية واستقال باكراً من عمله، لأنه سئم الحرب المقرفة التي فتكت بمفاصل بلده، وكان يكره السياسة، بل ترفّع عنها وأغرته الفلسفة الانسانية، فانصرف الى الاعتناء بالعائلة والمنزل والحديقة. بل كان يشجع منى على اكمال دراساتها العليا، فأكملت الدكتوراه في السوربون بعدما تخرج اولادها في الجامعات قبلها. وكان فؤاد شاباً وسيماً يعتني برشاقته، ويقال انه هو من ابتدع رياضة الآيروبيك وجلبها الى لبنان. لكن الحرب الملعونة أبت أن تكون نهاية القصة سعيدة. وقبل ان تودّع القذائف سماء لبنان وارضه، خطفت حياة فؤاد سنة 1990، في فترة "حرب التحرير" التي دارت آنذاك بين العماد ميشال عون والسوريين، عندما دخلت شظيّة صغيرة من نافذة المرحاض، وسلخت روح فؤاد عن جسده في يوم عيد الفصح في 26 آذار، بعدما ذبحته من رقبته وهو يحلق ذقنه. فتحوّلت فيلا اليرزة الى مناحة حقيقية، في ليلة انقطعت فيها الكهرباء، فعاشت منى واولادها كابوساً، لعله اصعب ما واجهته في حياتها. "بقيت منى تزور الطبيب النفسي 3 سنوات بعد موت فؤاد، وعاشت على حبوب الادوية المضادة لليأس. لكن لم يكن امامها خيارٌ سوى ان تقاوم قدرها، خصوصاً ان ابنتها كانت قد خسرت زوجها قبلها، وهو بطل "الرالي" جو الهندي، "الذي قضى في حادث سير خلال ممارسته رياضته المفضّلة، تقول علم الدين، قبل ان تضيف ان "الاستسلام لم يكن وارداً، فباتت هي وحدها عمود العائلة. الوالد كان باله مشغولا، ويقول لها يا منى لا تتحركي من المنزل، الوضع سيئ، لكنها كانت جبارة. استمرت في اعطاء الصفوف، لتحضّ طلابها على العيش المشترك، وهذه كانت امنيتها في الحياة. كانت محبوبة وترفع معنويات تلاميذها وتجعلهم يفكرون في المحبة ونبذ البغض والحقد والعنصرية، ولذلك تركت اثراً مهماً في نفوسهم". في أيلول 2015، رحلت الدكتورة منى تقي الدين اميوني، وهي نائمة في سريرها، في منزلها في اليرزة. وآخر ما أوصت به اصدقاؤها، ان يقولوا فيها بعد مماتها انها كانت صديقةً جيّدة.



شهادة القس الدكتور حبيب بدر



عندما يكون الانسان طالباً على مقعد الدراسة الجامعية، لا يستطيع ان يحكم على مدى ثقافة استاذه او سعة اطلاعه، الا بعد أن يغادر الجامعة ويراجع محطاته الحياتية ويعي تالياً ما اكتسبه وتعلّمه منها. ايقنت ان منى تقي الدين اميوني اكسبتنا خبرة حياتية غنية خارج اطار المعلومات الاكاديمية التي كان لا بد من تدريسها. واكتشفت مدى اهتمامها بالحوار بين الاديان والفلسفات، اذ كانت تؤمن بأن في قعر الحضارة وحدة ولحمة بين الانسان واخيه، لان الانسان إنسان اينما كان، وهو في نهاية المطاف يتخطى عرقه ودينه وجنسه ليصل الى عمق ما هو انساني، وهي جسدت تلك المفاهيم عندما تزوجت كصبية درزية من شاب مسيحي، وحينها تحدّت مجتمعها، لكن بمحبة، ولم تدر له ظهرها، بل كان والدها شخصاً راقياً ومثقفاً وساعدها في ارساء رسالتها. وما لفتني فيها كتلميذ، هو قربها من طلابها ، اذ ان كثراً اعطوا شهادات تفيد ان الدكتورة منى "كانت تتعلّم منا قبل ان تعلّمنا". كانت تنصت الى مشاكلهم، وهذا نتاج شخصية منفتحة على الآخرين. كنت تلميذ فلسفة وكان لدي ميلٌ الى السؤال والاهتمام بالمواد الثقافية التي تعلّمني اياها. صداقتها اغنتني، وكنت أشعر بأنني اجلس مع زميلتي في الصف، لا معلمتي. وكلما جلست معها، كنت اجد حواراً عميقاً وأدرك انني استفيد منها وانها تتعلم مني ايضاً. في سن العشرين، كان شعوراً عظيماً ان "مس اميوني" تعلمت مني، وترسخ هذا الشعور في ذهني في ما بعد، بعدما صرت قسيساً ووجدت انها فعلاً تلميذة ابدية. لم تفقد جهازها الفكري، وفي آخر مرّة التقيتها في عرس حفيدها في اليونان تحدّثنا طويلاً. وما اذهلني انها ظلت مرغوبة في الجامعة حتى اللحظة الاخيرة من حياتها، وهي بنفسها قررت ان تتقاعد، رغم إلحاح الجامعة على وجودها الدائم. انها امرأة مميّزة في فكرها وشخصها وانثاها، و"نيالو اللي عرفها". واذا ما اردت اختصارها بعبارةٍ واحدة اقول انها امرأة جبارة ومصممة على الاستمرار رغم كل شيء.







حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم