الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

إيران: استثمار الإرهاب والتشيّع

الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي يحضر عرضاً عسكرياً خلال حفل بمناسبة يوم الجيش في طهران (18 نيسان 2022 - أ ف ب).
الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي يحضر عرضاً عسكرياً خلال حفل بمناسبة يوم الجيش في طهران (18 نيسان 2022 - أ ف ب).
A+ A-
جواد الساعدي
 
تستخدم إيران شيعتها الولائيين وقودًا لمشروعٍ لا حظَّ له من النجاح على المستوى الاستراتيجي. قادة إيران يعرفون ذلك جيَّدًا ويعرفون بالتالي أين ومتى سيتوقفون، وإذا اقتضى الأمر، يستديرون حفاظًا على انجازاتهم ومكتسباتهم التي تتحقق بدماء شيعة المنطقة وعلى حساب أوطانهم ومستقبل أجيالهم.
 
معرفة قادة إيران بهذه الحقيقة تجد انعكاسها وتعبيرها في الصراع القائم منذ فترة طويلة بين التيار المحافظ والتيار الإصلاحي، كما تجد انعكاسها في حجم المعارضة والانتفاضات الشعبية التي تندلع في إيران بين الحين والآخر وتُواجَه بدموية غير مسبوقة، حيث ما يجمع التيار الإصلاحي والانتفاضات الشعبية بشكلٍ غير مباشر هو الاعتراض على إهمال المتطلبات الداخلية والتضحية بها لصالح سياسة مد "النفوذ الثوري" التي جعلت من إيران دولةً ينبذها الخصوم، فضلًا عن "الأعداء"، ويرتاب فيها ويراقبها "الأصدقاء".
 
لعل أصدق تعبيرٍ عن تلك المعارضة، هو ما يُقال عن صور القادة الإيرانيين التي لا تُعلَّق في بعض المدن الإيرانية إلّا على أعمدة عالية جدًّا، والسبب هو كي لا تضطر البلديات لاستبدالها أو تنظيفها كلَّ يوم مما يَعلق بها من بيضٍ فاسد ووحولٍ يقذفها بها المواطنون الإيرانيون ليلًا.
 
ليس الغرضُ هنا الحديث عما تعانيه إيران من هشاشةٍ على الصعد الاستراتيجية. إن بيتًا من الشعر ردده أردوغان لشاعرٍ أذربيجاني هزّ إيران وقادتها. فضلًا عن ذلك، فإن التاريخ والواقع يشيران إلى أن العقائد الإقصائية الشمولية يمكن أن تتغلب لفترة من الزمن، لكنها لا تنتصر انتصارًا أبديًّا، خصوصًا إذا كانت أدواتها القمع والإرهاب والاغتيال والصواريخ والمفخخات المسيّرة برًّا وجوًّا؛ ولا أعني في ذلك طرَفًا دون آخر، بَيْدَ أنَّ الغرضَ هنا هو الإشارة إلى بعض المنطلقات المهمة التي قد تُعين مَن يحاول استكشاف السياسة الإيرانية الكامنة وراء شعاراتٍ تُلقي بالغِشاوة على الأبصار وتشوش البصيرة.
 
بعد أن فشلت الشعوبية في بعث وترسيخ التعالي الفارسي الساساني-الكسروي المهزوم أمام مد الفتوحات، حاول الإيرانيون، وفقًا لعلي شريعتي في كتابه "التشيع الصفوي والتشيع العلوي" (ص 134)، "استحداث تشيّع شعوبي"، وذلك باختراع قصة زواج الإمام الحسين من بنت يزدجرد والتلفيق الإثني العصبي بين كسرى وهاشم، أي محاولة "عقد قران بين الإسلام والقومية الفارسية" (شريعتي، ص 123).
 
في عهد سيطرتهم على بغداد الذي امتد أكثر من مئة عام (945-1055م) أثار البويهيون الإيرانيون هيجانًا طائفيًّا أدى إلى جولات اقتتال كثيرة بين الشيعة والسنة لم تشهد عاصمة العباسيين مثلها على امتداد نحو قرنين كانا قد مرّا حينئذٍ على تأسيسها، حيث أشاعوا سبّ الصحابة وتكفيرهم وكانوا ينظّمون لهذا الغرض مسيراتٍ مستفزة لأهل السنة في بغداد، لكن عندما كان الأمر يخرج عن السيطرة، يقبضون على بعض رؤوس الشيعة ويعتقلونهم في دار الوزير لتسكن الفتنة، ثم يطلقونهم من الغد. ذلك فضلًا عن أنّهم خالفوا ما يزعمون أنه معتقدهم فأبقوا الخلافة بيد العباسيين وامتنعوا عن مبايعة أي علوي طالبي ليتحللوا من الطّاعة الموجبة له شرعًا.
 
أما في عهد الدولة الصفوية (1571-1736) فقد عمل الإيرانيون على "بعث القومية الإيرانية وإحيائها تحت ستار الموالاة والتشيع" (شريعتي ص 141)، مما أدى إلى حروبٍ طاحنةٍ تارةً مع الدولة العثمانية وأخرى بين الأهالي الشيعة والسنة، وفي كلا الحالين كانت بغداد ميدانًا رئيسيًّا لها. وقد شكلت تلك الحروب امتدادًا وذروةً أخرى للمعارك الطائفية التي أثارها البويهيون ولم ينطفئ جمرها حتى عصرنا هذا؛ فما أن تخمد نيرانها حينًا حتى تُشعَل مرّةً أخرى لتأكل الأخضر واليابس ولتخطف أرواح العراقيين وتحرمهم أبناءهم وبناتِهم وتحطّم كل ما بنوه وتحيله خرابًا.

في العصر الحديث، وبعد أن أسقطَت الثورة الإيرانية نظام الشاه في العام 1979 أشاعت إيران مبدأ "تصدير الثورة" وفكرة "ولاية الفقيه" التي تريد اختصار المرجعية في الشأن السياسي في مرجعٍ واحد وتشد أنظار الشيعة إلى مركز واحدٍ أوحد هو إيران؛ كون الولاية حسب خامنئي "بمنزلة إمامة أئمّة أهل البيت عليهم السلام، غير محدودة بقومٍ دون قوم، وبصقْعٍ دون آخر"، وذلك ما جعل العرب الشيعة موضع شكٍّ وريبة في أوطانهم أكثر من ذي قبل، فوضعتهم الأجهزة الأمنية تحت عدساتها ودفعت بعض شخصياتهم الكبيرة، إما إلى الهجرة أو إلى المعتقلات وسوح الإعدام.
 
بعد سقوط نظام صدام حسين، وفي دراسة مفصلة من 125 صفحة بتاريخ 6 أيلول 2004 وصف المكتب الاتحادي الألماني لمكافحة الجريمة كيف أصبحت إيران بعد الهجوم الأميركي على إفغانستان وانسحاب الكثير من عناصر وقيادات "القاعدة" إليها، "منصَّةً لانطلاق شبكة الزرقاوي التي تنامت بسرعة وامتدت من شمال القوقاز إلى سوريا وتركيا وصولاً إلى أوروبا"، ومحطةً لانتقاله إلى العراق، وهو ما كان النواة الأساسية لتوسع الإرهاب العقائدي الطائفي فيه وتطوره وصولًا إلى "داعش".
 
ذكر هذه الدراسة تحقيقٌ مطوّل عن حياة أبي مصعب الزرقاوي أجراه الصحافي السويسري أورس غيْـرغر بالتعاون مع الصحافي الأردني مروان شحادة، الخبير في شؤون الإرهاب، ونشرته على حلقات مجلة "فيلت فوخّة" السويسرية في أعدادها الأسبوعية 40 و41 و42 في 6 و13 و20 /10/2005 على التوالي. جاء في التحقيق أيضًا أن المكتب الاتحادي الألماني لمكافحة الجريمة قدّم لإيران تقريراً يُثبت أنها تقدم للزرقاوي "إمداداتٍ عبر جهات حكومية".
 
سيف العدل، المسؤول الأمني والعسكري آنذاك في تنظيم "القاعدة"، وهو عقيد سابق في القوات الخاصة المصرية، يقول في شهادته التي كتبها عن الزرقاوي ونُشر مع التحقيق نصُّها وصورةٌ عن بعض صفحاتها بخط يده، إنه "كان المسؤول عن النقل الآمن لبعض الأخوة العرب إلى إيران ثم توزيعهم وفق ما نراه مناسبًا، ومن بين هؤلاء الأخوة، كان الزرقاوي ومجموعته (...) التي قررت بعد نقاشاتٍ طويلة التوجه إلى العراق".
 
سيف العدل الذي حل منذ شباط 2021 محل الظواهري وابن لادن في قيادة تنظيم "القاعدة"، ويُعتَقد أنه لا يزال في "ضيافة" النظام الإيراني، يؤكد في شهادته تلك، الموقف الإيراني المتسامح بسخاء: "الأميركيون لاحظوا أن الإيرانيين يغضون الطَّرْف عن نشاطاتنا هناك فشنوا حملة إعلامية كبيرة على إيران. عندها وجدت إيران نفسها مضطرة لتوقيف رجال القاعدة وإبعادهم إلى بلدانهم الأصلية، أو إلى أي مكانٍ آخر؛ المهم أن يغادروا إيران".
 
يُنقَل عن عميد المنبر الحسيني، الشيخ العراقي النجفي الراحل د. أحمد الوائلي، الذي لم يزر إيران في حياته الممتدة من أيلول 1928 حتى تموز 2003 سوى مرّةٍ واحدة، أنه كان يقول: "إن إيران بالنسبة لنا كالموسى في الحلق، لا نستطيع هضمها ولا نستطيع إخراجها". أما الراحل السيد هاني فحص، اللبناني الجنوبي، فيُنقَل عنه القول: "إن الإيرانيين يذبحون بقطنة"، وذلك في إشارة إلى دهائهم وقدرتهم على الوصول إلى أهدافهم دون ضجيج محسوس، أو ربما في إشارةٍ إلى أنهم يستخدمون القطنة ليذبحوا بها القريب كي لا يشعر الأقرب. لكن في الحالة الأولى يبدو لي أنه لم يعد للإيرانيين سوى ضجيج الصواريخ والمسيَّرات المفخخة والاطلالات الدورية المدوّية لأزلامهم، وصرخات الضحايا الذين يسقطون بمسدسات "جنودهم" الكاتمة للصوت؛ وفي الثانية فإن القطنة تحولت إلى حبلٍ سيلتف على رقبة كل الشيعة في المنطقة قبل غيرهم إذا تغلّب الولائيون واستمرّوا كأدواتٍ في صندوق السياسة الإيرانية ومشروعها الامبراطوري الذي تعبر عنه، بين الحين والآخر، فلتات ألسنة المسؤولين الإيرانيين أنفسهم بتصريحاتٍ فيها الكثير من الازدراء والاستهانة حتى بـ"كبار حلفائهم".
 
من جهة أخرى فإن غياب دولة المواطنة الديموقراطية في البلدان العربية، وانتهاكات حقوق الإنسان، وغياب حرية التعبير والاعتقاد، ونمو الفكر الأصولي المتطرّف، وضعف الشعور بالهوية الوطنية، وكذلك الارتماء في أحضان الكيان الصهيوني وبقاء القضية الفلسطينية دون حل، لا يساعد في تحصين مجتمعاتنا العربية أمام المشروع الإيراني؛ ذلك فضلًا عن مشروع العثمانية الجديدة الذي يشبهه في الخلفيات والأدوات والآفاق؛ وما أود الإشارة إليه هنا هو أن بعض هذه المجتمعات (العراق وسوريا ولبنان خصوصًا) سيكون وقودًا للتصادم المباشر بين المشروعين إذا ما تسنّى لهما الاستمرار في الاختراق والتمدد والهيمنة أكثر؛ فالحرب الحقيقية بين المشروعين لم تقع بعد حيث ما جرى بينهما حتى الآن على الساحتين السورية والعراقية لم يكن سوى تمارين خفيفية لحربٍ شعواء نأمل أن تتجنبها الأجيال القادمة بنبذ الطائفية وتجذير الوعي الوطني المدني الديموقراطي.
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم