الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

جولة بن سلمان... قطار المصالحة والجبهة الموحّدة

المصدر: "النهار"
د. خالد محمد باطرفي
بن سلمان وإردوغان (أ ف ب).
بن سلمان وإردوغان (أ ف ب).
A+ A-
تقوم السياسة الواقعية على أربعة أركان: الدولة، القوّة، المصلحة العقلانية، والأمن. وعندما يلتزم جميع القادة بهذه المبادئ، يسهل توجيه دفة العلاقات بينهم الى ما يعظّم المنافع، ويحيّد المخاطر، يركز على التنمية ويتفادى الصراعات. المشكلة تبدأ مع خروج طرف أو أكثر عن النصّ، وتتعاظم عندما يضطرّ البقيّة للمجاراة والتعامل مع التصرّفات غير المتوقعة، وتداعياتها. 

حكم المؤدلجين
وأكثر ما يحدث ذلك عندما يرتقي الى السلطة من ينتهجون في أسلوب حكمهم الشعبوية القومية والعقائدية، وتقود تصرفاتهم المشاعر الشخصية والعقد التاريخية، ويحكمون بطريقة استبدادية إقصائية، تقرّب الموافقين وتبعد المخالفين. ولا ينحصر ذلك في الأنظمة الاستبدادية بطبيعة تكوينها، ولكنها قد تحدث أيضاً في الأنظمة الديموقراطية، عندما تتسلط عليها الأحزاب المؤدلجة والسياسات الشعبوية. 

وما يحدث اليوم في منطقة الشرق الأوسط، يأتي نتيجة حتمية لبعد بعض حكامها وأحزابها عن العقلانية السياسية، واحترام القوانين الأممية التي تنظم العلاقة بين الدول، وتثبت حدودها وأجواءها ومياهها الإقليمية، وتعطي مرجعية لخلافاتها عبر مؤسسات دولية، وحسب اتفاقيات حاكمة، وقعت عليها معظم ا لدول، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، لتفادي تكرارها. 

صفرية المشاكل وأحلام الخلافة
وعندما اختارت تركيا سياسة "تصفير المشاكل" في مطلع الألفية الثانية، حتى عام 2010، استطاعت في عقد واحد أن تحقق قفزة تنموية مذهلة وضعتها في مصاف دول أوروبية، وفي مجموعة أقوى عشرين اقتصاداً في العالم. 

وعندما اختارت أن تلاحق أوهام الخلافة العثمانية الجديدة، وعندما تورّطت مع إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، وشركائه إيران وقطر والإخوان المسلمين، لقلب أنظمة الحكم، وإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، بإدارة ايرانية تركية، وعمالة إخوانية، وإشراف أميركي، وتنسيق مع إسرائيل، خرجت أنقرة عن السياسة الواقعية، الى خنادق السياسات التوسّعية، التآمرية. وكانت النتيجة الطبيعية، أن خسرت هذا وذاك. تراجع نموّها الاقتصادي، واستنزفت مقدّراتها في معاداة جيرانها العرب، وخسرت الرهان على نجاح "الربيع العربي" في تحقيق الهيمنة "العثمانية" على ولاياتها السابقة. 

تحوّل حقيقي أم تكتيكي
وقد يشكك البعض اليوم، بعد المصالحات التركية مع الإمارات ومصر والسعودية، في جدّية "حزب العدالة" في العودة الى العقلانية وتصفير المشاكل. ويتساءلون عمّا إن كان هذا التحوّل حقيقياً أم هدنة مؤقتة فرضتها القطيعة الدولية والخلافات السياسية مع حلفائها الأوروبيين والناتو وجيرانها العرب، وتداعياتها الاقتصادية الحادة على الاقتصاد التركي، كما يشهد بذلك تدهور العملة خمسة أضعاف في السنوات العشر الماضية، والتضخم الى 70% في عام واحد، ونضوب الاحتياطات المالية وودائع العملة الصعبة، والموارد السياحية، والاستثمارات الأجنبية، علاوة على المقاطعة الشعبية العربية لمنتجاتها الصناعية والزراعية. 

ويحذر المشككون من إنقاذ الحزب الحاكم من خسارة الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة في 2023 بتقديم الدعم المطلوب وإنهاء القطيعة والمقاطعة، فيستعيد قوته، ويأمن الى سلطته، و"تعود حليمة إلى عادتها القديمة"، كما تفعل إيران. فالقناعات العقائدية والقومية والشعبوية ما زالت كامنة وراسخة، وإن توارت شعاراتها، وتراجعت أنشطتها أخيراً. 

هواجس حاضرة
وفي تقديري، إن هذا الهواجس لم تغب عن الحكام العرب الذين تصالحوا أخيراً مع تركيا، ولا عن قيادة قاطرة المصالحة التي انطلقت من محطة العلا في 2021 بالقمة الخليجية المصرية، ومرّت بصنعاء وعدن وبغداد وبيروت، قبل أن تصل بربّانها، الأمير محمد بن سلمان، الى أنقرة، قبل ثلاثة أسابيع من قمّة التصالح والشراكة مع القيادة الأميركية في جدّة. 

ولا تغيب عن الزعامات العربية التي مر بها القطار للتشاور والتحضير والتنسيق في الجولة الأخيرة لولي عهد السعودية، القاهرة وعمّان، فكلٌّ ذاق مرارات الخصومة وعانى من تجاوزاتها، ويواجه اليوم ما قد تكون أصعب وأخطر مراحلها، المواجهة العسكرية والأمنية مع إيران نووية، إضافة الى الأعاصير الوبائية والسياسية التي مرّ بها العالم في العامين الماضيين، ويمرّ بها اليوم نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا وعودة القطبية الدولية، و"اشتعال" الحرب "الباردة". 

عودة الواقعية
على أن الواقعية السياسية تفرض التعامل مع العلاقات الدولية بمنطق "الدولة والقوة والمصالح والأمن". وهذا يدعو الحكماء الى تجسير الهوات وملء الفراغات وتأمين الجبهات، وإلى التعالي على الضغائن وتسديد الفواتير. وبذلك يتفرّغ الجميع لرصّ الصفوف، وتأمين المواقع، والاستعداد للإعصار الأمني المقبل. 

إن أمراض العالم، من التضخم وتقطع سلاسل الإمداد، وارتفاع تكلفة النقل، الى اختلال لأمن الغذائي، بانقطاع الموارد الزراعية، وأزمة سوق الطاقة، كلها تستدعي حالة تعاون وتكامل وتنسيق غير مسبوقة بين كبار وصغار المنتجين والمستهلكين، الصنّاع والزرّاع، أصحاب الماء والكلأ وأصحاب النفط والغاز، أهل المال والجاه وأهل الخبرة والمهارة، للعودة الى مسار التنمية، وتأمين احتياجات الشعوب، وتفادي ثورات الجياع. 

ملفات بن سلمان
محمد بن سلمان لم يحمل في جولته الأولى منذ الجائحة، التي حملته الى القاهرة وعمان وأنقرة، في ثلاثة أيام، أي أضابير لحسابات قديمة، بل ملفات مشاريع تنموية مليارية في مجالات تقليدية ومستقبلية، إنتاجية وتكاملية، صناعية وزراعية. وقد تم التوقيع عليها خلال زيارات قصيرة، سبقتها تحضيرات طويلة، عملت خلال الأعوام الماضية، وتسارعت في الأشهر الأخيرة، لرصد الاحتياجات والفرص الواعدة وتقديم الحلول العملية المجدية، والمستدامة. 

وهي عبارة عن باقة واسعة وشاملة ومتكاملة، من إنتاج طاقة الشمس والرياح، الى شبكات الكهرباء والغاز والمصافي النفطية، ومن المشاريع السياحية والتعليمية والصناعية، الى البحوث الفضائية والذكاء الاصطناعي والمحطات النووية. وكلها تهدف لتوفير الوظائف لأجيال متعلمة متطلعة للمشاركة في تنمية بلدانها وقطف ثمارها، وتأمين احتياجاتها اليومية والمستقبلية، مع خفض الحاجة الى الخارج، وعدم الارتهان لتقلبات العرض والطلب في الأسواق الدولية. 

الكتلة الإقليمية
ولم يغب الواقع السياسي الدولي عن حقيبة ولي العهد السعودي، إذ نوقشت خلال جولته قضايا أبرزها تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، والعلاقات العربية، العسكرية والأمنية والاقتصادية، بروسيا والصين، وموقف الدول المشاركة من الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، واصطفافات المحاور الدولية الجديدة، وتطورات الملف النووي الإيراني وبرنامجها الصاروخي، ومليشياتها الإرهابية، وسياساتها المزعزعة للاستقرار في المنطقة. 

وعندما يلتقي الرئيس الأميركي جو بايدن منتصف الشهر القادم، مع القيادة السعودية، ومع القادة الخليجيين والعرب في قمة جدة، سيسهل عليه التعامل مع الملفات التي جاء بها أمام كتلة إقليمية متماسكة، لها رؤية سياسية واقتصادية وأمنية واضحة. وعندما يطرح فكرة إقامة جبهة عسكرية إقليمية، بقيادة الولايات المتحدة، وتشمل قوى المنطقة الكبرى (العربية وتركيا والناتو) سيجد أن التفاوض أسهل مع هذه الكتلة، وسيكون عليه أن يتقدّم بالشكر والعرفان للأمير محمد بن سلمان، الذي نجح في توحيدها. 
 
أستاذ في جامعة الفيصل
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم