الأربعاء - 01 أيار 2024

إعلان

الذاكرة الحية

المصدر: النهار - نورا كابويان
كيف كان لجدي معرفة أن مفكراً كرافاييل ليمكين في العام 1944 سوف يصوغ مصطلحاً جديداً في كتابه
كيف كان لجدي معرفة أن مفكراً كرافاييل ليمكين في العام 1944 سوف يصوغ مصطلحاً جديداً في كتابه
A+ A-
كيف كان لجدي معرفة أن مفكراً كرافاييل ليمكين في العام 1944 سوف يصوغ مصطلحاً جديداً في كتابه
"Axis Rule in Occupied Europe"
لوصف أشنع جريمة سياسية في تاريخ البشرية ألا وهي الإبادة الجماعيّة. مصطلح يُطلق على حالة من التطهير الكليّ على أساس العرق أو القوميّة أو الدين. وبإقرار أكاديميين عدّيدين، فإن المصطلح نفسه اعتُمد بناء على دراسة المأساة الأرمينية بكلّ أوجهها. وبقدر ما أصبح هذا الإعلان وما اقترن به من صفة تشريعيّة مكتسبة من هيئة الأمم المتحدة نقلة حضارية، وانتصاراً معنوياً للبشرية ككلّ، إلا أنه تسبّب أحياناً بهواجس سياسية لدى بعض الدول والجهات التي تقترن تاريخها أو حاضرها بالضلوع في مثل هذه الأعمال المستنكرة من قبل الضمير الإنساني. تمثّل هذا الهاجس تارةً بالإنكار والتبرّؤ، وتارةً أخرى بتحريف أو طمس الحقائق. فبالرغم من التطلعات البشرية لإكساب نظرية الإبادة الجماعية منظومة قانونية تنفيذية أكثر استقلاليّة ومصداقيّة، فإن التجريم لاقتراف الإبادة وحتى الاعتراف بها لا يزال يخضع لحسابات ومصالح دولية تجعله عرضة للتشويش والإفراغ من مضمونه.
التاريخ الأرمينيّ هو عنوان مسيرة شعب له رصيد في التاريخ الإنساني قرابة الثلاثة آلاف عام متمثّلة بعدة مملكات متتاليّة، حتّى قُدّر لبعضها أن تكون قوة أقليميّة. هذا التاريخ السياسي والوجود الديموغرافيّ كان مقترناً بإرث حضاري متجذّر في الثقافة العالمية، وبقوّة اقتصادية لا يُستهان بها على أرض الأجداد. بهذه المكوّنات الأساسيّة حاول هذا الشعب نيل دور له في التاريخ الحديث أسوة بدول الإمبراطورية العثمانية الأخرى المتطلّعة إلى نيل استقلالها. هكذا ولدت المسألة الأرمينية في منتصف القرن التاسع عشر لتكون جزءاً من مواضيع اجتماعات مجالس الدول العظمى. كانت الطموحات السياسية آنذاك خجولة، لا تتعدّى المطالبة بالإصلاحات الدستورية للوطن الأم. ففي نهاية ذلك القرن، لم تنجح تطلّعات الشعب الأرميني في نيل أيّة استجابة لمطالبه العادلة، بسبب حسابات وصفقات دولية جعلت من المسألة الأرمينية ورقة خاسرة.
فأثناء الحرب العالمية الأولى أُعيدت صياغة التاريخ الحديث من قبل الدول العظمى، وبالتالي تصفية الحسابات مع القضايا القومية الشائكة. كانت الدولة العثمانية المتمثّلة بحكومة الاتحاد والترقي ترى فرصة ذهبية لها للتخلّص نهائياً من المسألة الأرمينية في خضم غفلة، أو غالباً تغافل الدول الكبرى. فالمفكّر الألماني جوزيف ماركوارت عبّر عن هذه الفكرة في العام 1916 بقوله: "إن شعار السياسة التركيّة الرئيسيّ هو "عندما يُزال الأرمن، تُزال المسألة الأرمينية كذلك".
هكذا، فالتخطيط المسبق والتنفيذ من قبل السلطة الحاكمة بأدوات وآليّة إجرامية محترفة وصولاً إلى إبادة أمّة بأكملها ممّا أدّى إلى اقتلاع القضية الأرمينيّة من جذورها والقضاء عليها.
لقد كانت هذه الجريمة بادرة سياسية فريدة من نوعها في التاريخ الحديث، يعود شرف اكتشافها و"براءة اختراعها" للسلطنة العثمانية أو الدولة التركية آنذاك.
مئة وسبعة أعوام مع تتابع خمسة أجيال من الناجين من هذه الإبادة والجراح لا تزال تنزف، والشعب الأرميني بشقّيه في الوطن والمهجر يتطلّع إلى حلّ عادل لقضيّته الوجوديّة.
في العام 1965، وبعد مرور نصف قرن على الإبادة الأرمينيّة تمّت لملمة النتائج الكارثية للفجيعة، وبدأت الصحوة على الواقع المستجّد. هكذا ترسّخت أسس بعث أمة من جديد كان محكوماً عليها بالزوال، فبدأت تتشكّل نواة حركة الاستذكار والاستنكار في معظم دول العالم التي تحوّلت إلى استراتيجية سياسيّة حضاريّة لإنعاش الذاكرة التاريخية للعالم، ونبش الحقائق ودفع الدولة التركية الحديثة للاعتراف بالإبادة الأرمينية.
بعد خمسة عقود من المثابرة السياسية للشتات الأرميني، ومع الضغط على الدول التي هاجروا إليها، جاءت الحصيلة باعتراف ثلاثة وثلاثين دولة بالإبادة الجماعيّة الأرمينية واعتبارها جريمة ضدّ الإنسانية يتوجّب إدانتها.
التعنّت التركي والتنّكر لما جرى، وتربية الأجيال على تاريخ مشوّه مغلوط، لم يحمِ هذه الدولة من شرخٍ وتصدّع في جدار صمتها، حيث بدأت تعلو أصوات قويّة مؤثّرة في المجتمع نفسه تقدّم الاعتذار العلني، أو تطالب بالجهر بالحقيقة ومواجهة الواقع. فبالرغم من انحصار هذه الأصوات في المجال الأكاديمي وبين المثقفين وقلّة من الفنانين والكتاب، فإن وَقعَها شكّل فتيل شعلة لصحوة الضمير، ووققة للمسؤوليّة الشجاعة عند البعض. وقد شكّل مقتل الصحافيّ هرانت دينك نقطة انعطاف، ولو صغيرة على درب الالتزام بالمسؤولية التاريخية. إن الدولة التركية الحديثة بالرغم عدم مسؤوليتها جنائيّاً عمّا اقترف أسلافها من إثم تاريخيّ، فإن سلوك التنكّر لديها لا ينمّ عن قيم ومفاهيم حضارية تتناسب مع تطوّر الفكر السياسي لعالمنا المعاصر. إن تركيا الحديثة هي شرعاً الخليفة الطبيعية للدولة العثمانية. فهي ملزمة بتحمّل نتائج الأخطاء السياسية لأسلافها، أقلّها الاعتراف ثمّ الإدانة والتعويض، فهكذا تصرّفت ألمانيا مع اليهود. إنّ معايير الديمقراطية والتحضّر تتحقّق بتحرير الذات من الإرث المعيب، فالشعوب كالبحار والمحيطات تكرّر وتنفي نفسها بنفسها من خلال إحياء ذاكرة حيّة مشرّفة.
إن الإطروحات التركية لنفي الإبادة الأرمينية تفنقر إلى الموضوعية العلمية، وتتصف أحياناً بسذاجة أكاديمية في تناول الوقائع الراسخة-الثابتة، فنرى هذه الدولة الكبيرة تلجأ إلى ما يسمى البازار السياسي حول الأحداث التاريخية وتتلاعب بالكلمات والأرقام مستقوية بنفوذها السياسية كدولة مؤثرة. إن حجج الحكومات التركية الواهمة تصطدم دائماً بالحقائق الموثوقة بالشهادات والمذكّرات الوفيرة لرجال دولة وقانون ولشهود عيان من كافة الدول والجنسيات، أمثال هنري مورغينتاو وأرمين فاغنير وفريدريخ نانسين وغيرهم.
قرن من الدائرة المغلقة لقضيةٍ لن تتّسم بالمرحلية. إن المشكلات السياسية التي نعايشها اليوم بدأت معظمها تعشعش وتتبلور قبل قرن من الآن، وبرحلة ماراتونية تتابع سيرها متأثرة بتطورات آنيّة-ظرفيّة، ومهما وصفت بالقدم تبقى هي الأرضية المغذيّة لمشكلاتنا. فالقضية الأرمينية كغيرها من قضايا العصر ولدت من الماضي، وحتمية حلّها لا تتحقق إلا من خلال تصحيح أخطاء الماضي.
إن إصرار التركية الحديثة على التهرّب من مواجهة تاريخها بحيثيتها الأليمة، يشكّك في مصداقيتها السياسية تجاه القضايا العادلة في المنطقة، لا سيما العربية منها وبالتحديد الكردية. فلا يجوز العمل بناءً على مقولة الكاتب الفرنسي شارك ليمير: "إننا نسنُّ القوانين للآخرين والاستثناءات لأنفسنا".
مئة وسبعة أعوام... تاريخ الذاكرة الجماعية التي لم تمت ولن تموت أبداً. فالذاكرة الجماعية هي سيرة وجودية للشعوب عامةً، وبوتقة وجدان كلّ أمة تحترم كيانها وتحمل رسالة إنسانية عبر التاريخ.
فالأرمن لم ينسوا يوماً أن الأرض التي آوتهم، وبُعثوا عليها من جديد هي أرض عربية مضيافة، وأن الأيدي التي امتدّت لنجدتهم هي أيادٍ بيضاء عربية. لم ينسوا أن مقابل برقية الموت والإبادة بحقّ أمّة حيّة لطلعت باشا (وزير داخلية حكومة "الاتحاد والترقي" آنذاك)، كان هنالك إعلان شريف مكّة الرحيم، الذي أوصى رعاياه بإيواء واحتضان أشلاء الأمّة الأرمينية الممزّقة.
إنهما نهجان متضادان في السلوك السياسي والإنساني المتجذر بطبيعتين بشريّتين متضاربتين. لقرن من الزمن حمل الأرمن هذا العرفان بالجميل في ثنايا أرواحهم ونقلوه إلى أقاصي الأرض.
إن الشعب الأرميني لن ينسى طلائع المثقفين الألفين، الذين خُنقت أشعارهم وذُبحت كلماتهم وأُسكتت موسيقاهم.
لن ينسى الأرمن مئات الآلاف من الأطفال المشرّدين، الذين افترست الذئاب والصقور أجسادهم الجائعة-البريئة، كذلك الرجال والنساء والشيوخ، الذين باتوا طريدة غير منتهية لآلة القتل الوحشيّ. كيف عليهم أن ينسوا البيت المهجور، والأرض المحروسة، التي بقيت من غير حصاد، والكنائس المهجورة، التي غنّى صدى الصّمت فيها على إيقاع قهقهة الشياطين.
إنهم قتلة أمة، قتلة حضارة وثقافة، قتلة أجيال لم تولد بعد.
اليوم في هذه الذكرى الـ107 للإبادة الأرمينية، يطلّ الجيل الخامس من الناجين مواصلاً حمل المطالب التاريخية للشعب الأرميني وداعياً الدولة التركية للاعتراف، الإدانة والتعويض عن جريمتها.
كيف كان لجدّي، وهو الطفل اليتيم الناجي- الوحيد من عائلة كبيرة، معرفة أن أحفاداً وأبناء أحفاد له، سيولدون ويقولون للعالم: "لا تنسوا إبادة الأرمن، فالنسيان سبيل التكرار، الشعوب ممنوعة من الزوال، فبقاؤها حقٌّ مقدّس".




الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم