الحريّة والوعي بالتاريخ
Smaller Bigger
جواد الساعدي

في تلك العصور التي يسمونها ذهبية لم تكن عقول العامة وعموم الخاصة من الناس أفضل مما هي عليه اليوم، وليست طرائق التفكير والسلوك الغالبة في مجتمعاتنا اليوم هي في حالٍ أحسنَ مما كانت عليه في تلك العصور "الذهبية". إشكالية منطقية، لكنَّ نظرة على الفِرَق التي نشطت في تلك العصور، ومستوى تفكيرها والوسائل التي كانت تخاطب بها جمهورها، ومقارنتها بما يجري اليوم، تُرينا أن آلة التخلف التي وقفت وتقف وراء ذلك، لا تزال تدور بصخبٍ شديد على رغم الصدأ الذي يعتريها، وأنها ذات الآلة التي تسعى دائمًا لتغييب العقول وتثبيط قدراتها على التفكير النقدي الحر المستقل.

لا يشعر الإنسان بغيابه عن الفعل والتأثير إذا سلّم عقله لمسلّماتٍ لا ترتقي عنده إلى مستوى النقد. لا يشعر الإنسان بعجزه عن ممارسة حريته، إذا لم يؤمن أولًا بأنه حر، يمارس تفكيره بحرية، ويقبل حدود هذه الحرية بإرادته المتعقلة التي تستوعب متطلبات الزمان والمكان وتستجيب لها بكامل وعيها.

يقول الكاتب النمساوي كارل كلاس (1874-1936): "عندما تنخفض شمس الحضارة، فإن الأقزام بالذات يُلقون ظلالًا طويلة". في مثل هذه الظروف يُغيَّب المثقفون الحقيقيون خلف أكداس "المثقّبين" - ليس خطأً طباعيًّا- من كل صوب، ويتقدم على الجميع "مثقفو الطوائف" الذين تقف خلفهم حراب الميليشيات. لم تعد الطوائف مجرد شرانق تلتف حول نفسها، صارت ذئابًا تحتفي بأنيابها عند كل مناسبة وتكشف عن حاجتها لدمائنا، لكن أبواقها المدرّبة تتحول إلى حَمْلٍ وديع يذرف الدمع عندما يتعلق الأمر بشعورها بـ "مظلومية" ما.

أمام حراب الميليشيات يرتد وعي الناس أو يفقدون حياتهم وحياة أبنائهم، ومن لا يفقد حياته سيعيش مهمشًا يخشى أن يفقد كرامته أو أسباب عيشه الكريم ويضطر إلى البحث عنها في أكوام المزابل التي تخلفها يوميّات القادة والفاسدين والمنتفعين من الخيرات العامة.
كلما قرأت كتابًا في التاريخ، نمت مطمئنًّا إلى قلقي. مصدر الطمأنينة هذه هو مشروعية القلق من جميع الذين يريدون العودة إلى الماضي السحيق، سواءٌ أكانوا مدفوعين بالثأر أم بأحلام التوسع الأمبراطوري أو بكليهما، ويلجأون إلى تغييب الوعي بالماضي فيختطفون الحاضر والمستقبل.

لا أحد يملك حاضرًا يطابق ماضيه، فكل الكيانات، من الفرد إلى القبيلة إلى المجتمع إلى الديانات، تمر بتحولات حتمية لا قدرة لها على ردّها وإن حاولت، لكنها تستطيع إبطاءها بتغييب الوعي أو تشويهه، وذلك لا يتم إلا بقمع الحريات وتغييب العقل النقدي.

لكن الزمن لا يعود إلى الوراء ولا يجرى عكس مجرى التاريخ، لأن التاريخ هو ظل الزمن. غير إننا إذا لم نعِ التاريخ فلن ندرك الزمن، وسنبقى خلفه نراوح في مكاننا. وبيت القصيد هنا التاريخ الاجتماعي الذي يخرج من السرد إلى التحليل ومن القصور إلى الأسواق والشوارع ليعكس الظروف التي كانت تعيش فيها الطبقات الشعبية المجردة من السلطة، أي إنه تاريخ الإنسان المسحوق بآلة التاريخ نفسه.

لم تلتفت دولنا التي قامت بعد الحرب العالمية الأولى إلى بث الوعي بالتاريخ الاجتماعي، وبقي التاريخ السردي الذي لا تُسمع منه سوى قعقعة السلاح والافتخار وشد العصب، هو السائد. حتى مؤسساتنا الفكرية والبحثية بقيت متأخرة في هذا المجال. بغض النظر عن أسباب ذلك، فإن الوعي بهذا التاريخ هو ما ينقصنا الآن وليس التاريخ السردي الذي يُستغَل لتثبيت "أحقيّة" ما، تنتقل معها القوة والسيطرة من طرف إلى آخر فيبقى الإنسان مسحوقًا، ذليلًا، غير آمن لحاضره ولمستقبل أبنائه.

تخيلوا لو أن كتب التاريخ السردي تتجاهل معاناة الأرمن والعلويين والأكراد والديموقراطيين الأتراك ولا تترك لنا سوى الحديث عن أردوغان وقصوره وطموحاته في الغزو و"رفع راية الإسلام"؟ وتخيلوا كيف يمكن أن تتحدث هذه الكتب عن لحظة إطلاق صدام حسين صواريخه على الكيان الصهيوني، فتصف فرح معظم العرب والمسلمين بها، دون أن تشير إلى أن المجتمع العراقي كان منخوراً، مقسّمًا ومفتتًا وتعبًا من الحروب وعقودٍ من القمع الشديد أنتجت غضبًا وحقداً كان يكمن في نفوس العراقيين على النظام، ودون أن تُلفت النظر إلى أن اقتصاد العراق كان مثقلاً بالديون التي ترتبت عليه جراء الحرب العراقية الإيرانية والميزانيات العسكرية الضخمة، وأن العراق كان عاجزاً عن أي مجابهة طويلة الأمد، وأن إطلاق الصواريخ لا صلة له بخطة حقيقية لتحرير فلسطين، بل كان تعبيرًا عن لحظة يأس سياسي وانسداد أفق لحلول تخرجه من ورطته في الكويت.

تخيلوا أيضًا لو أن مدوني التاريخ سردوا لنا التضحيات الكبيرة والمشرّفة التي قُدّمت لتحرير نينوى وبقية الأراضي من "داعش" وتجاهلوا معاناة العراقيين التي لا يشعر المرء إلا بغصّةٍ تخنقه وهو يحاول المرور عليها لعرضها، تلك المعاناة التي لا تجد لها تفسيرًا في المحافظات التي لم تقع تحت سيطرة الإرهاب الداعشي بغير الفساد والتخلف والنفاق في الدين والمذهب وعليهما، وبغير النفاق بالمواطنة والارتباط بالمشاريع الخارجية. لا بل تخيلوا لو أنهم يسردون لحظة اعتلاء ابي بكر البغدادي المنبر لإعلان "إحياء الخلافة"، دون المرور بمأساة الناس في المناطق التي سيطر عليها، خصوصًا المسيحيين والأيزيديين.

تخيلوا أيضًا لو أن هذا السرد يحتفي بتحرير أرض الجنوب اللبناني من دنس الاحتلال الصهيوني - وهو أمر يستحق الاحتفاء فعلًا-، لكنه لا يُفصِّل ما وصل إليه اللبنانيون من أوضاع اقتصادية واجتماعية مزرية، هي بالتأكيد ليست أحسن حالًا من أوضاع أشقّائهم العراقيين. ولكم أن تستنبطوا استطرادا مثل هذه الفرضيات من اليمن وليبيا وسوريا وإيران وغيرها.

إن الوعي بهذا التاريخ منوطٌ بالحريّة، حرية البحث والتفكير والنشر والتعليم والتعبير عن الرأي، وهو يشكل بدوره ضمانا لاستمرار تلك الحريات وتدعيمها وعدم التضييق عليها. يقول أدونيس في "الثابت والمتحول": "لا عقل دون حرية ولا حرية دون عقل، العقل يفهم الواقع والحريّة تغيّره أو تعيد تشكيله وفقًا للعقل، والممارسة السياسية مجالٌ لنمو الحرية، أي لنمو العقل، فالمجتمع الذي لا حرية له في هذه الممارسة لا يكون عاقلاً ولا حرّاً".

يجب تخليص قراءة التاريخ من تأثير العقائد الدينية والسياسية. وهذا الأمر يحتاج أيضًا إلى حريّة. حرية يتمتع ويؤمن بها الفرد نفسه وتشكل له انضباطًا ذاتيًّا يقيه الانحياز العاطفي التلقائي. وهنا تجتمع وظيفتا العقل والحرية في التغيير كما يراهما أدونيس.

لا يقتصر الأمر على قراءة التاريخ بعصوره الإسلامية أو ما قبلها. الفترات اللاحقة المعاصرة من التاريخ، على الرغم من قربها وتوفر مصادرها، تتعرض للتشويه على يد قراءاتٍ متحزّبة تُخفى فيها الوقائع عمدًا لصالح اتجاهات ايديولوجية ومذهبية معينة.

لا شك أنها مهمة تبدو صعبة حيث يظهر أننا نريد تجريد كلّ قارئ للتاريخ من ميوله واتجاهاته العقائدية والسياسية والعاطفية، لكنها في الواقع ليست كذلك إذا استبعدَ قارئ التاريخ عن نفسه الميول الثأرية لينطلق، بأجنحة الملائكة، خفيفًا إلى المستقبل، وإذا وَضع خيرَ الإنسان هدفًا كما تضعه عقيدته الحزبية والسياسية أو المذهبية، حيث كل العقائد والاتجاهات لا تتنصل من ادعاءٍ كهذا. فلو كان الإنسان مذهبنا فعلًا، لانتصرنا على التاريخ وقيوده التي تأخذنا إلى الحروب مُكبّلين.


الأكثر قراءة

لبنان 10/25/2025 8:33:00 PM
وُلد حمدان في 19 كانون الثاني (يناير) عام 1944، في قرية عين عنوب، قضاء الشوف في لبنان.
لبنان 10/26/2025 5:22:00 PM
اعتداء إسرائيلي جديد في جنوب لبنان...
ايران 10/26/2025 6:06:00 PM
 المسؤول هو سردار عمار، القيادي البارز في الحرس الثوري الإيراني ورئيس "الفيلق 11 ألف" التابع لفيلق القدس بقيادة إسماعيل قاآني