الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

أميركا بعد "رو"... استقطاب إضافي أم تهدئة تدريجية؟

المصدر: "النهار"
جورج عيسى
متظاهرون ضد الإجهاض أمام المحكمة الأميركية العليا، 24 حزيران 2022 - "أ ب"
متظاهرون ضد الإجهاض أمام المحكمة الأميركية العليا، 24 حزيران 2022 - "أ ب"
A+ A-

هو السؤال المنتشر على نطاق واسع في الولايات المتحدة وخارجها. إلى أين تتجه البلاد بعد حكم المحكمة الأميركية العليا بإبطال قرار "رو ضد ويد" الذي يمنح المرأة حق الإجهاض. الحكم نفسه خاضع للتأويل. ينطلق التوصيف من الموقع السياسيّ للواصف. المحافظ يرى فيه استعادة الولايات لصلاحيّة التشريع في هذه القضيّة. الليبيرالي يجد فيه اعتداء على حقّ دستوريّ. من هذه الهوّة يتفرّع مساران يزدادان تباعداً. طبعاً ليست هذه الهوّة ابنة أمس. لكنّ الحكم الجديد قد يعزّز الاستقطاب المجتمعيّ الذي يكاد يقسم أميركا إلى قسمين.

 

وجدت "بوليتيكو" أنّ المحكمة الأميركية العليا غيّرت الولايات المتحدة بثماني عشرة طريقة. تداعيات الحكم ستتخطّى إمكانية الوصول إلى عمليات الإجهاض لتؤثّر على النظام الصحي والقضاء والسياسة. عيّنة بسيطة من الآراء الكثيرة التي استطلعتها المجلّة تبيّن حجم الاختلاف في التوقّعات كما في منسوبي التفاؤل والتشاؤم.

 

فرصة

يرجّح أستاذ القانون في جامعة نوتردام أو كارتر سنيد أنّ الأميركيين سيعتادون على حكم أنفسهم في هذه القضية على المستوى التشريعي كما يفعل أصدقاء الأميركيين حول العالم بدلاً من "الخضوع" لقرارات قضاة غير منتخبين. سيكون هذا المسار معقّداً لكنّه سيخفّف الاستقطاب ويؤسّس لسلم أكثر تحضّراً في السياسات الأميركية. ورأى أنّه مع انخفاض نسبة الإجهاض منذ التسعينات ارتفعت مشاركة النساء في القوة العاملة بشكل كبير حتى على مستوى رئاسة الأعمال متوقّعاً استمرار المسار التصاعديّ نفسه للأميركيّات في العقد المقبل.

مؤلّف كتاب "استعادة الأمل: الدروس المستخلصة في البيت الأبيض بقيادة أوباما عن مستقبل الإيمان بأميركا" مايكل وير يعتقد أنّ الحزبين أمام فرصة: بإمكان الديموقراطيين رفض المطالب المتشدّدة للجناح التقدّمي في الحزب حول إجهاض بلا قيود والبدء بالإصغاء إلى الديموقراطيين الذين لديهم مقاربة أكثر تفصيليّة للموضوع. كذلك، على الجمهوريين فهم أنّ القوانين القاسية في الولايات المحافظة ستقوّض مشروع بناء أميركا ما بعد رو ناصحاً إيّاهم بسنّ تشريعات لا تجرّم النساء وتزيد الدعم للعائلات.

مع ذلك، توقّع وير أن يفوّت الحزبان الفرصة المتاحة عبر تكرار السلوكيات السابقة. تشاؤم ليندا هيرشمان، مؤلفة كتاب عن الاسترقاق العرقي، كان أكبر. توقّعت أن يقوم الجمهوريون بعد السيطرة على الكونغرس والبيت الأبيض بتجريم محاولات التنقل بين الولايات للحصول على الإجهاض وستساعد المحكمة العليا في منح غطاء قانونيّ لهذه السياسة. وبحلول 2032، سيراقب مكتب التحقيقات الفيديرالي "أف بي آي" مراكز الإجهاض المتبقية في الولايات الديموقراطية وحتى الرسائل الإلكترونية والنشاط على شبكة الإنترنت لجميع النساء القادرات على الإنجاب لاعتقالهن أثناء العبور لو تمّ التشكيك بوجود غاية للإجهاض.

يتناقض توقّعا سنيد وهيرشمان لجهة إمكانيّة حصر حقّ الإجهاض في النقاشات والسياسات المحلية لكل ولاية. في حين يعتقد الأوّل أنّ هذا الأمر ممكن بل مفيد للأميركيين، تشير الثانية إلى تضاؤل هذا الاحتمال. بعبارة أخرى، يريد المحافظون فرض هذا القانون حتى على الولايات الديموقراطية. هذه النيّة، على افتراض صحّتها، تتلاقى مع تحليل آخر يستشرف مستقبل الولايات المتحدة. تستند هذه النظرة إلى أنّ الجدل حول الإجهاض ليس سوى تجلٍّ واحد للمشكلة وربّما الأزمة الثقافيّة التي راحت تفصل بين الأميركيّين بشكل تدريجيّ.

 

أمّتان لا واحدة

نقلت مجلة "أتلانتيك" الأميركية دعوة رئيس "معهد التحليل" لدراسات الانتخابات مايكل بودورزر إلى البدء بالتفكير بكيفية تشكيل أميركا أمّتين مختلفتين، حمراء (جمهورية) وزرقاء (ديموقراطية) عوضاً عن أمّة واحدة ذات توجهين سياسيين. وهذه "ليست استعارة؛ إنها واقع جغرافي وتاريخي". الاختلافات بين الولايات في عهد ترامب تشبه كثيراً خطوط التقسيم الجغرافية والثقافية بين ولايات الاتحاد والكونفيديرالية.

بحسب بودورزر ثمّة 25 ولاية حمراء و 17 زرقاء و 8 ولايات أرجوانية (منقسمة التوجه السياسي) قد تصبح 10 إذا أضيفت إليها أريزونا وجورجيا. يترك ذلك البلاد على "حافة السكين": هامش الفرق في الأصوات خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة لم يتعد 2%. تساهم الولايات الزرقاء بـ46% من الناتج القومي مقابل مساهمة الولايات الحمراء بـ 40%.

تتخلّف الولايات الحمراء عن الزرقاء في الإنتاجية الاقتصادية ومدخول العائلة وأمد الحياة المتوقع عند الولادة والإنفاق التعليميّ ومكافحة الموت اليائس (مخدّرات، كحول...). لكن الحصول على السكن ومعدّلات الضرائب وأحياناً النمو الوظيفي أفضل في الولايات الحمراء. وتستفيد الولايات الزرقاء أكثر من الانتقال نحو الإنتاجية العليا واقتصاد المعرفة.

السؤال الأساسيّ هو عن قدرة الولايات المتحدة على العمل بواسطة جناحين يبتعدان عن بعضهما. خلال حقبة التمييز العنصري كان هدف الولايات الجنوبية دفاعياً عبر منع الحكومة الفيديرالية من التدخل في شؤونها فامتنعت تالياً عن فرض أسلوب حكمها خارج حدودها. لكن خلال السنوات الأخيرة قبل اندلاع الحرب الأهلية أصبحت هجومية وهادفة إلى توسيع الاسترقاق إلى المزيد من الأراضي والولايات.

من هنا، يتوقع بودورزر وآخرون أن يكون هدف الجمهوريين الطويل الأمد تغيير القواعد الانتخابية في عدد كاف من الولايات لمنع الديموقراطيين من الفوز بالكونغرس والرئاسة. لا يعني ذلك أن الولايات ستتقاتل في العقد المقبل لكن الأخير قد يجلب أكبر التهديدات إلى الاستقرار الأساسي للولايات المتحدة منذ تلك الأيام وفقاً للتقرير.

 

ما تراكم على مدى عقود

ما يتّفق بشأنه برودورز وهيرشمان وآخرون أنّ الجمهوريين (الترامبيّين تحديداً) يريدون فرض أسلوب عيشهم على الولايات الأخرى. بذلك، تميل الولايات المتحدة للدخول في اشتباك سياسيّ طويل المدى بناء على هذه الفرضيّة. ربّما يساهم قرار المحكمة في زيادة حدّة هذا الاشتباك. لكنّ ذلك ليس أكيداً. فغالبية الأميركيين لا تملك نظرة قاطعة إلى الإجهاض إضافة إلى أنّ القرار لم ينجح في تعبئة الديموقراطيين بحسب استطلاعات رأي عدّة.

قد يترك حكم المحكمة العليا تأثيراً على الاستقطاب لكنّه تأثير غير محدّد المعالم. الأكيد أنّ معالجة الشرخ الاجتماعيّ والثقافيّ ليس مرئياً في الأفق. وعد بايدن بالعمل على هذا الهدف لكن لا يبدو أنّه وُفّق. ومع توقّع استمرار الترامبيّة في المدى المنظور، وهي قد تستمرّ إلى ما بعد حياة ترامب، ومع استمرار انتشار اليسار الراديكاليّ أيضاً الذي يشاطرها بعض الصفات، لن يكون بالإمكان الرهان على زوال الضغوط عن المؤسسات الهادفة إلى ضمان التماسك في السنوات المقبلة. بدأت الولايات المتحدة تسلك مسار الاستقطاب منذ ثلاثة عقود. حتى لو لم يسقط "رو" من المرجّح أنّه لم يكن ليتغيّر الشيء الكثير على هذا المسار.

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم