08-02-2023 | 05:00

الدّيموقراطية البرلمانيّة في بريطانيا... "من بيت أبي ضُربت"!

فيما لا تزال ارتدادات فضيحة ناظم الزهاوي تؤرق الحكومة، ثمة الكثير من الفساد السياسي الذي يمارس خلف أقنعة تتعدد، لكن ضحاياه تبقى هي نفسها على الدوام، ويُنتهك القانون في عقر داره: مجلس العموم ومجلس اللوردات.
الدّيموقراطية البرلمانيّة في بريطانيا... "من بيت أبي ضُربت"!
Smaller Bigger
فيما لا تزال ارتدادات فضيحة ناظم الزهاوي تؤرق الحكومة، ثمة الكثير من الفساد السياسي الذي يمارس خلف أقنعة تتعدد، لكن ضحاياه تبقى هي نفسها على الدوام، ويُنتهك القانون في عقر داره: مجلس العموم ومجلس اللوردات. 
 
الزهاوي، نائب ستراتفورد أبون إيفون مسقط رأس وليام شكسبير، ترشح لزعامة حزب المحافظين، ومعها رئاسة الوزراء بعد نحو سنة من خضوعه إلى تحقيق "الوكالة الوطنية للجريمة" حول تعاملاته المالية. والأدهى أن بوريس جونسون رئيس الوزراء الأسبق، عيّنه وزيراً للمالية، أي المسؤول الثاني في الدولة، في الوقت الذي كان يتفاوض بشأن تهربه من الضرائب مع الهيئة المسؤولة عنها، والتابعة لوزارته آنذاك. 
 
 
وقبله بزمن طويل، كان عشرات النواب، ولا يزالون، يؤدون وظائف إضافية، يقدمون خلالها، من موقعهم الرسمي، "خدمات" ليست واضحة المعالم دائماً ولجهات مجهولة، أو مموهة، أحياناً. والواقع أن شكوكاً تحيط بالوظائف الإضافية لـ38 نائباً (من أصل 650)، ممن يرفضون التصريح بهوية رب عملهم الثاني! وتقدر المبالغ التي تقاضاها النواب من أعمالهم خارج البرلمان، بين عامي 2019 و2022 بـ 17.1 مليون جنيه استرليني (نحو 20.59 مليون دولار) كانت حصة الأسد منها (15.2 مليون جنيه/ 18.32 مليون دولار) لنواب محافظين. واللافت أن ثلثي المبلغ الإجمالي كانا من نصيب 20 نائباً فقط. 
 
وثمة مئات من اللجان التي لا تتمتع بصلاحيات رسمية وتسمى "مجموعات برلمانية مؤلفة من الأحزاب كلها"، يُرجح أن جماعات الضغط تؤسسها من أجل خدمة غرض اقتصادي أو تجاري، وذلك بالنيابة عن زبون معين يفضل التعامل مع البرلمانيين بطريقة غير مباشرة. 
 
هكذا تحاول شركات وأشخاص، بطرق مريبة، التأثير في سياسات المملكة المتحدة وقوانينها من خلال "التبرع" و"توظيف" النواب، أو تقديم المال لمجموعات برلمانية. والأدهى أن بعض هذه الجهات خلّبي لا يعدو كونه مجرد اسم وهمي، بحسب تحقيق استقصائي أجرته "سكاي نيوز". 
 
ولا يستبعد أن يكون وراء بعض هذه الجهات الخفية مجرمون، أو أعداء، أو مقربون من فلاديمير بوتين، الرئيس الروسي، الذي تجري شيطنته في بريطانيا، ما دام أعوانه يستثمرون فيها ويملكون العقارات وغيرها عبر شركات تعمل غالباً من ملاذات ضريبية بريطانية وغيرها. 
 
في هذا السياق، كشف جهاز الاستخبارات الداخلية (إم آي 5) أوائل العام الماضي عن محاولة أجنبية معادية لاستغلال النظام البريطاني، حين حذّر تحذيراً غير مسبوق من أن كريستين شينغ كوي لي (عميلة صينية)، اخترقت البرلمان وقدمت تبرعات لبعض أعضائه وصلت إلى 420 ألف جنيه، لخدمة مصالح بكين.
 
وجاء ذلك في وقت انشغلت الأوساط السياسية بفضائح جائحة كورونا، وأبرزها اثنتان، تقاضى في كل منهما برلماني من الحزب الحاكم "أتعاباً" سخية من شركة ساعدها بفضل علاقاته مع علية القوم على الفوز بعقود حكومية. "بطلة" الفضيحة الأولى التي كُشف عنها أواخر العام الماضي، هي ميشيل مون، عضو مجلس اللوردات. أما الثانية، والأهم، فلطخت سمعة أوين باترسون الوزير الأسبق في 2021. 
 
لكن لم تكن المخالفات محصورة بالمحافظين، بل كانت للبرلمانيين بأنواعهم دائماً فضائح فساد سياسي وأخلاقي. وتورط نواب المحافظين والعمال والديموقراطيين الأحرار، في "أزمة النفقات" البرلمانية عام 2009، التي "غيّرت بريطانيا". كما لم يخلُ عهد توني بلير، المشغول منذ سنوات بإلقاء المواعظ و"تدريب" الآخرين على الحكم الرشيد والديموقراطية من الفساد. فخلاله طُرد بيتر مندلسون، أحد أركان نظام بلير، من الوزارة مرتين، الأولى بسبب خرق القانون، والأخرى لأنه استغل موقعه للتسريع بمنح الجنسية البريطانية لملياردير هندي.
 
 
والحق أنه ليس هناك تعريف فضفاض بما فيه الكفاية للفساد كمصطلح مطّاط. فهو، من جهة، أداة لملء جيوب السياسيين بالمال وإلحاق الضرر بالمواطن، إذ يبدّد أموال دافع الضرائب، ويشغل النواب عن خدمة مصالحه. ومن جهة ثانية، هو داء ينهش النظام الديموقراطي من الداخل. وإلا ماذا يعني أن تُباع عضوية مجلس اللوردات، الشريك الأساسي في صناعة القوانين، مقابل 3 ملايين جنيه استرليني، بحسب "الشفافية الدولية"، أو تكون بمثابة وسام يخلعه رئيس الوزراء على أنصاره ومحازبيه! وتعرّفه "الشفافية الدولية" بأنه "إساءة استخدام السلطة الموكلة للمرء لتحقيق مكاسب خاصة". وربما يستحق غياب الصدق، على طريقة جونسون، والتباين بين ما يدعيه المسؤول من قيم وسلوكه الفعلي، كما في حالة تيريزا ماي، أن يُصنّفا في خانة الفساد. 
 
ماي ناقضت نفسها بعدما صارت نائبة، وقبلت مبالغ كبيرة من بعض من حملت عليهم بقسوة حين كانت رئيسة للوزراء. وتفوقت على جميع زملائها لناحية الدخل، إذ جنت في السنوات الثلاث الأخيرة من أعمالها خارج البرلمان 2.5 مليوني جنيه استرليني. 
 
 
والفساد داء لا يصيب الأفراد وحدهم. فقد تعانيه أنظمة العمل بحيث تصبح عرضة للاختراق. مثلاً "سجل مصالح الأفراد" حيث ينبغي أن يُدّون النائب أو اللورد كل ما يتلقاه من هدايا وتبرعات ورواتب الخ، موجز إلى حد يبقى معه الغموض يكتنف ما يتلقاه البرلمانيون من المال. والغموض هو من ركائز الفساد. فكيف تحاسب المسيء إن لم تعرف حدود إساءته؟ 
 
ليس غريباً أن تتنشط جماعات الضغط بكثافة في دولة كبريطانيا. لكن المستغرب أن يتم الكثير من عملها تحت جنح الظلام، ما يسمح لكل راغب باستعمالها لأغراض غير قانونية. ثمة جماعات ضغط مسجلة رسمياً وتعمل في وضح النهار، فلماذا لا يجري إخراج الأخرى إلى النور، لضبط عملها، كما هي الحال في أميركا وكندا وإيرلندا؟
 
سؤال مشروع. لكن معالجة هذا "الفلتان" تكاد تكون غير ممكنة. تعتبر بريطانيا أكبر لاعب على مستوى العالم في ميدان الخدمات المالية السرية التي ساعدت أثرياء حول العالم على تفادي دفع ضرائب بنحو 190 مليار دولار. فهل يعقل أن تستل لندن روح نظامها المالي وتتخلص من "ثقافة التعتيم"،  لكي تضع حداً للفساد البرلماني؟
 
كما أنها لن تكون سريعة، إن حصلت. وحتى لو تحمس ريشي سوناك رئيس الوزراء للبدء بها، لن يتم التغيير بين ليلة وضحاها. فقد استغرق إجراء إصلاحات مماثلة في الماضي أكثر من قرنين ونصف قرن. 
 
مع هذا، لا بد من اتخاذ الخطوة الأولى للانطلاق برحلة الألف ميل.
 
وعلى أي حال، العالم يرى ما يجري. لذا تراجعت بريطانيا في مؤشر الفساد الذي أصدرته "الشفافية الدولية" أواخر الشهر الماضي، سبع درجات لتصبح في المرتبة الـ18 بين 180 دولة. وأشارت المنظمة غير الحكومية إلى أنها وضعت يدها على نحو 40 مخالفة للقانون الوزاري البريطاني في السنوات الخمس الماضية لم يجرِ التحقيق فيها. واعتبرت أن هذا "الهبوط الحاد" عبارة عن "إدانة قوية للتدهور" أخيراً في معايير الحكم وضوابط استعمال أموال دافع الضرائب. 
 
هكذا أخذت الهالة التي أحاطت ببريطانيا لجهة النزاهة السياسية والقانونية تتلاشى، وديموقراطيتها التي اعتُبرت يوماً مثالاً يحتذى باتت مهددة. فصناعة الفساد تتم في البرلمان نفسه!

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 10/21/2025 6:00:00 AM
الحرب انتهت، لكنها جولة ضمن الصراع الأكبر، وعدم إيجاد حلول للصراع سيعني عودة الحرب!
المشرق-العربي 10/20/2025 10:41:00 PM
 سرية تُعرف باسم "إمبراطورية مصاصي الدماء" قتلت الطفلة هند رجب 
اقتصاد وأعمال 10/21/2025 12:47:00 PM
في خطوة من شأنها إعادة تشكيل القطاع المصرفي المتضرر في البلاد.
تحقيقات 10/21/2025 2:10:00 PM
ما هي أبرز التحديات التي تواجه عمليات البحث عن الجثث والمفقودين في غزة؟