منصور الهبر... الاعتمال بديلاً عن النوستالجيا

منصور الهبر... الاعتمال بديلاً عن النوستالجيا
الاعتمال بديلاً عن النوستالجيا - تعبيرية.
Smaller Bigger
علي هاني شمس الدين


وصلتني بِضعُ صورٍ لمعرض الفنان التشكيلي اللبناني منصور الهبر "أعمال على الورق" في غاليري "آرت أون 56 " في بيروت، وهي صور رغم تلقفها إلكترونياً بدت لي كأنها تقول الكثير عنا نحن اللبنانيين، وربما عن زمننا في العالم المنتهي الصلاحية الذي نحن فيه. شخصيات منصور عندما تجتمعُ في اللوحات فهي تجتمع في حيّز غير مُتعارف عليه عامةً. فلا يكفي الحضور عند هذا الاستدعاء من الفنان ليرتسمَ ويتشكّل، فهو سريعاً ما ينصرف في تبدد اللحظة عند كل طيفٍ باختزال وذوبان عبرالتشكيل في الوقت والضوضاء والنظر. وبهذا، تظهر في الأعمال إشكاليّات جمّة؛ فالوحدة سبب للجمع، والجمع نتيجة للعزلة، حيث تبدو الشخصيات المُجرّدة تقيم في ما بينها على حدة، تحمل تلفوناً أو مستلقية في فراغ يومي أو شاخصة بين بعضها البعض عبر كلام ولغو أو منعزلةً في استرخاء غير مستقرٍ وغير غَفِلٍ في مشاهد تؤلّفها خطوط وألوان تصنع الشكل وحركته واتصاله بالذات وبالعام. وهذا زمن يشبه حبال الغسيل الرطبة على الأسطح في طقس عاصف. شيء ما يُعلن أنّه هنا يوجد ذاتيّة وخاصّيةً بالجمع أو بالمفرد، وهذه ألوانها، وهذه حدودها المتفاوتة في بعضها البعض، ولكنها لم تُنجز تشكلها وجاهزيتها، ولم تكمل دورتها. ولهذا يبدو راهِن اللبنانيين في أعماله مقيماً في تعاملٍ متوتر مع الطارئ، الذي يؤلف زمن اللوحة، إذ يبدو هذا الراهن مكان تشتت وجمع في آن. فالوجوه والأجسام، وإن اجتمعت خارج العزلة في بعض تلاوينها، فإنها تظهَر كآثار وجود خاص وآخر عام لايؤلّفان جمعاً ولا تفرّداً أيضاً، فيبدو معهما الزمن العام تشكيلة أعطاب. ولكنها أعطاب حيّة غير مستسلمة لمآلاتها.
 
 
عبر مسار عملية التفاعل مع العمل والشخصيات، يأخذنا منصور معه في رحلة يسيطر فيها الفنان بتشكيله على النظر عبر تحفيز الخلفيّة وجعلها المُقَرّر في ظهور الشكل وانسيابيته. ففي لحظات كثيرة، تقوم هذه الخلفية ذات اللون الهادئ المُقرّر باستيعاب الخطوط والألوان في مساحة طمس وخروج من عملية تحقق النظر واكتمال المعاينة. وهو بهذا يؤسس سياق اللوحة واعتمالها، ولكنه، بهذا أيضاً، يُقوِّضه حيث يُريد، ويوقف نمو براثنه وتمددها في عين الناظِر.

فمنصور يوظِّف الخلفية هذه كوسيط بين المكونات أكثر منها كمكان ظهور وتجلٍّ. فعبر هذه الوساطة ترتسم حدود الذات وإمكانياتها في سعيها إظهار فرادتها وانوجادها في محاولة تأليف الجمع وحضوره. ولكنها أيضاً ليست وسيطاً محايداً. فهذا التمدد يتعثر، ويهوي في انقطاعات واختفاء وغياب الأعضاء والملامح التي تمتصّها الخلفية وترسم حدودها وتُنهيها. في بعض اللوحات، تبدو الأشكال مأسورة في كيس المخاض في تكتلات متقابلة تفصلها تصلب الخلفية ووضوحها الفج في صلف الراهن وأعبائه. وفي لوحات أخرى، تظهر الشخصية في عزلتها وفرادتها في حالة عدم أكتمال، تظهر كلون أو كغياب نصفيّ تبتلعه الخلفية. والذاتية هذه في بعض تجلّياتها تنظر إلينا مع طلب لنتلقّفها ونلحظها، أن نؤشِّر لها أننا رأيناها، أن نُكمل دورة الاتصال التي فشلت في إكماله في الجمع، وأن نومئ لها أو ربما أن ننضم إليها. ولكننا في كل هذا لانعرف إذا ما كان هذا التطلَّب في الزمن المتوتر سيفضي إلى اكتمال الاتصال أو انقطاعه أو ضموره.

 
 
فأعمال منصور هذه تقيم في حالة دمج بين عملية تمثيل الشكل بالخط واللون وبين حيّز التواصل النشط والمتطلب بعيداً عن الذاكرة، وعن استحضار رمزيّة المكان وسطوة التذكّر. وبهذا يُقدّم الفنان الحركة كرافع للتشكيل وبديل عن جذر يُستعاد أو يُجدَّد. وهذا مشروع يُنذر بمغادرة الحنين إلى المكان وأسطرة زمنه واستعادته الأيقونية إلى معاينة الوجود كإشارة سابقة أو مستقلّة عن وعينا له. يذهب منصور إلى سمت مختلف عن هذا، يذهب إلى الواقعيّ واليوميّ وارتجاجاتهما والاستحالات التي تشكّلهما ليعرِّف وجود أشكاله وشخصياته عبر تشكيل متواصل تتشابك فيه الحركة والشكل والغياب في اعتمال لاينتهي في النظر وفي المُخيّلة.
 
 
فالخلفية عند منصور تجمع استحالات التشكّل هذه كلها، وتُمكن إخراج الاعتمال كمناخ عام، ليُقدّم، من خلاله، عناصر الإمكانية، إنما ليس باستدراج النوستالجيا بل بإظهار وطأة الراهن كعنصر توسّط واتصال ومحاولة لم شمل العزلة والجمع، وإن كانت المسافات أو الالتصاقات صاعقة في التنافر الذي يغلف مسار اللحظة. ولهذا يبدو زمن منصور زمن اعتمال وليس زمن تخفّف، أو زمن تذكُّر ومناجاة؛ فمنصور يدمج الواقعية بتجريد تعبيريّ ليصنع منهما حالة تواصل متأجّجة، يحرّكها السعي الدائم والمحاولة. وأحسب أن هذا الضرب من التشكيل فيه حبّ جامع للذات المنعزلة وللجمع وللشتات، يلتقطه الفنان ويضعه مقابلنا في مكاشفة صادقة في زمن انحباس وتشتّت.
 
 
 


الأكثر قراءة

اقتصاد وأعمال 10/7/2025 5:24:00 AM
سترتفع كلفة تسديد مفاعيل التعميمين من نحو 208 إلى 260 مليون دولار شهريا، بزيادة نحو 52 مليون دولار شهريا
لبنان 10/6/2025 11:37:00 PM
افادت معلومات أن الإشكال بدأ على خلفية تتعلق بـ "نزيل في فندق قيد الإنشاء تحت السن القانوني في المنطقة".
لبنان 10/7/2025 1:21:00 PM
 النائب رازي الحاج: ابتزاز علني لأهل المتن وكسروان وبيروت
لبنان 10/7/2025 1:51:00 PM
في اتصال لـ"النهار" مع وكيل هذه العائلات المحامي محمد حبلص أكد أن ملف هذه العائلات يحظى بمتابعة من الوزير الحجار واللواء شقير "على عكس التجارب السابقة مع مسؤولين آخرين"