الثلاثاء - 30 نيسان 2024

إعلان

المعلّم باستور

المصدر: "النهار"
نزار عبد الستار
المعلّم باستور
المعلّم باستور
A+ A-

أخذت آينور هانز، في السابعة صباحاً، خادمتها بريتا، وذهبت إلى مصنع الجوارب في باب سنجار لرؤية الماكينات التي وصلت من ميناء البصرة. لم تنم جيّداً. انتابها القلق، وبقيت تعاني ضيق تنفّس، وألماً في الكتفين، والحلق، وترى أخيلة ناطقة حول سريرها ما لبثت أن تبيّنت منها أطياف صديقاتها في توبنغن، ورأت بوضوح رودولف عارياً، وقضيبه منتصباً، ثمّ أخذت تحكي مع أمّها الملتصقة بالسقف، وتلومها على إهمالها قبل أن تسمعها بريتا، وتأتي لإنقاذها. بقيتا متلاصقتين على السرير، تتطلعان بروحين متقرّحتين إلى منظرهما المزري المعكوس على مرآة خزانة الثياب حتى غادرت كلّ الأطياف الغرفة، وكان رودولف آخر من انسحب، وقضيبه مخذول بالموت. تعرّفت آينور إلى رائحة العرق البعشيقي التي نشرتها أنفاس بريتا في الغرفة، فسألتها إن كان تابور يضايقها. ردَّت بأنّه لا يكلمها، بل يملأ لها القنّينة بالعرق، ويتركها في المطبخ. كان وجه بريتا يبدو، على الدوام، خالياً من الدم، ويشي بعلّة في الرئة. كالحة مثل عتبة خشبية تُركت خمساً وثلاثين سنة مكشوفة للشمس، والأمطار، والرياح، والأقدام. أسنانها الأمامية العليا متكسّرة، ما جعل فمها غير صالح للضحك. مشاعرها كواجبات. تعرف ماذا تفعل عند كلّ إشارة تفرزها عواطف الأشخاص الذين حولها، لكنّها لا تستوعب أن يكون لديها، في أعماق روحها، الحاجة نفسها، وأنّها تستحق من الآخرين معاملة وجدانية مماثلة. حين رأت دموع آينور، جرّدتها من قميصها، وجعلتها تنام على بطنها، من دون أن يكون هذا ما بكت بسببه. جهّزت، في وعاء خزفي صغير، مزيجاً من زيوت القرنفل، والزيتون، واللوز، وأخذت تمسح به الحبوب الحمر في ظهر سيّدتها. شعرت آينور برجفة أصابع بريتا، فشدّت عضلات كتفيها، وطلبت منها بصوت جافّ استخدام القطن. 

كانت الطرقات رطبة برذاذ مطري أفلتته الغيوم طوال الليل. توقفت عربة آينور أمام مستشفى ليجون في حيّ الأوس ريثما تأخذ بريتا موعداً لسيدتها من الطبيب جرجس غزالة. انبهرت آينور بما رأته على أرض المصنع الذي اكتمل منه المخزن، والسور الخارجي. كان العشرات من العمّال يجهّزون لعقد سقف المبنى الرئيس الذي مساحته ألف متر مربّع، وأركانه من البازلت، أمّا جدرانه العالية فمن الحجر الأسمر الناتئ. طلبت آينور من الجميع تركها وحدها في العربة. أرادت الانفراد بنبضة ضوئية أحسَّت بها تولد من قلبها وتسير طافية في مسارات دمها. بقيت تتأمّل البناء الضخم ومشاعرها تنسج إحساساً فيه خشونة وهشاشة معاً. أيقنت لحظتها أنّها تشعر بالفرح، فخامرها عوز بارد إلى رودولف. ترجّلت من العربة. خلعت البوشية وتقدّمت خطوتين. أخذت نفساً عميقاً، ومسحت أنفها بمنديل أصفر، ثمّ قالت للمبنى بصوتٍ مرتفع:

– أنت كبير جداً وتشبه الجبل، ووظيفتك أن تصنع جورباً صغيراً، أمّا قلبي فهو بحجم قبضة يدي ومع هذا بناك وأقامك. أنا آينور هانز، سيّدتك أيّها المصنع.

كان المخزن ببابين وسقف هرمي، يجاور المبنى الكبير، ويتّصل معه بسكّة حديد قصيرة لها عربة مسطحة لنقل الأوزان الثقيلة، وقد جعله كروغر هايس نسخة من قاعة ورشة الخياطة في مدرسة الصنايع ببغداد، واتخذه مكاناً للمبيت. كانت رائحة البحر لا تزال عالقة بالصناديق الحاوية للماكينات، بينما شاعت على دكة كروغر أنفاس زيتية ثقيلة. بدا كل شيء رائعاً لآينور ما دفع كروغر هايس إلى الإسهاب في شرح كيفية عمل الماكينات، وهيمنت عليه رغبة في توجيه تابور لمعاونته على فتح الصناديق، لكن آينور، وهي تلمح بقعاً على بنطلونه من الخلف، كبحت اندفاعه قائلة:

– سيد هايس، أرشد بريتا إلى ما يمكن أن يجعل إقامتك هنا مريحة.

***

كان مبنى المستشفى متكوّناً من ردهتين صغيرتين وغرفة عمليات، يتوسّط كنيسة اللاتين، ومعهد مار يوحنا الحبيب الكهنوتي. حمل اسم ممثل الأمبراطور نابليون الثالث البارون ليجون الذي تُوفي في الموصل وهو في طريق عودته من بلاد فارس، فأنشأت والدة البارون المستشفى سنة 1874 تخليداً لذكراه الحزينة. لم تلتق آينور بالطبيب جرجس سوى مرّة واحدة في مكتب سعيد أفندي السعرتي حين كانت تقوم بإجراءات استثمار الأرض المجاورة لجامع الأغوات، وكان الطبيب قد جاء يحذّر من الصحراويّين الذين يجولون في الأزقة، ويجرون عمليات الكاتاراكت في العيون، ويقلعون الأسنان، ويعالجون البواسير، وقد تبادلا بعد ذلك بالفرنسية العديد من الرسائل التي كانت تنقلها بريتا بشأن ما تحتاج إليه الموصل من خدمات طبّية، يمكن للأمبراطورية الألمانية توفيرها ضمن بروتوكول الصداقة الموقّع مع الدولة العثمانية، وقد ادّعت آينور أنّها مكلفة من القنصل الألماني في بغداد معرفة نوع الاحتياجات الطبّية لكي تقدّم الهبات على أساسها. كان سعيد أفندي السعرتي شديد الإعجاب بالطبيب جرجس الذي كانت له معجزات نبيّ، وحرص نملة، وقد أطلع آينور على تقرير كتبه الطبيب ضمّنه رأيه بمشروع مستشفى الغرباء. ولأنّه قوي الضمير، فإنَّ التشاؤم الوارد في التقرير ليس له علاقة بضغط الإرساليات التبشيرية. كان متوتّراً على الدوام لأنّه يعتقد أنّ هناك الكثير من التطوّر العلمي يفوته كلّ دقيقة، وهو هنا يبدّد وقته مع الأغبياء والحمقى. في الأربعين، ملامحه حادّة، وهندسة رأسه ناتئة. نظراته متوثبة، وكلماته سريعة. لا يستطيع الاسترخاء، ويعطي الانطباع بأنّه لا يملك للشخص الذي يلتقي به أكثر من دقيقة. درس الطبّ على أيدي الآباء اليسوعيين في بيروت، ثمّ التحق بجامعة باريس، وتلقى دروساً من شانتس، وبوتزي، وباستور، لينال الدكتوراه سنة 1888. انتظرته آينور نصف ساعة، وحين دخل مكتبه كان يحمل على راحتيه زجاجات أدوية عليها لواصق باللاتينية. طلب منها، من دون أن يلقي التحيّة، تخيُّل حجم أورام العفن التي في أدمغة الناس هنا. وزّع الزجاجات بين أرفف خزانة خشبية، وقال إنّه معجب بالأمبراطور فيلهلم الثاني لكنّه يتمنّى أن يستمرّ على حكمته. وحين استدار، ورأى آينور جالسة على الكرسيّ بالتواء مثل قطة ناعسة، وقد رفعت عن وجهها البوشية، وبدت بشفتيها الورديتين، وبعينيها الطفوليتين مثل حلم نوراني لا يأتي إلّا لرجل محظوظ كالمسيح، اعتذر عن همجيّته قائلاً:

– آسف مدموزيل... لم أتوقع هذا.

سألته بصوتٍ ناعم، ورائحتها الباتشولية تتأجّج:

– لماذا لا تحبّ فكرة مستشفى الغرباء؟

جلس إلى مكتبه، وقد بدت عليه الصدمة، فعادت آينور لتقول:

– أطلعني السيد السعرتي على تقريرك. الأمبراطور فيلهلم التزم بناء مستشفيات في كلّ ولايات بلاد ما بين النهرين.

قال بصلابة:

– منذ وفاة والدة البارون ليجون ونحن هنا نمارس الطبّ مثل العطّارين والحلّاقين، ومستشفى الغرباء في بغداد أغلق لأنَّ السلطان عبد الحميد الثاني غضب على الوالي المصلح مدحت باشا ونفاه. الناس يرون أنّ الشفاء يأتي من الله، ولهذا يؤمن المسيحي بالراهب الطبيب، ويريدنا المسلم أن نرتدي العمامة. الذي ترينه هنا هو موت حقيقي، وعلى رأي لويس باستور فإنَّ الحياة لا تنشأ من مادّة ميتة بل تنبثق من حياة أخرى قائمة.

ابتسمت آينور بثقة:

– لهذا أرى أنَّ مستشفى الغرباء هو الحلّ.

توتَّر صوت الطبيب جرجس:

– أنت تتكلمين عن اتفاقيّات دولية، ومبنى، وإجراءات إدارية، وتبرّعات مالية، وأنا أكلمك عن العقل. هنا لا يؤمنون بضرورة التعقيم مع العمليات الجراحية لأنَّ روح الله في المشرط. يصدّقون وجود الشيطان، وينكرون وجود الجرثومة.

اعتدلت آينور في جلستها قائلة:

–اسمع يا دكتور. نصف أوروبا لم تصدّق بعد معلّمك باستور. أنا قبل أربع سنوات كنت أدرس في توبنغن الكثير من الخرافات عن طبّ التوليد. والكثير من النساء يمتن الآن بحمّى النفاس على رغم أنّ معلّمك باستور يظنّ أنّه حلَّ المشكلة. في مناطق عدّة من ألمانيا لا يزالون يحدثون ثقباً في الرأس كي تخرج الأرواح الشريرة. التخلّف في كلّ مكان يا دكتور، فلا تقس على مدينتك.

وجَّه إليها سبّابته قائلاً بانفعال:

– وأنت لا تقسي على ألمانيا. قبل أربع سنوات اكتشف فيزيائي اسمه رونتغن أشعّة يمكن من خلالها معالجة المريض من طريق التصوير. لقد استطاعت ألمانيا رؤية عظام الإنسان الحيّ وهي بلا لحم، وهناك ألماني آخر اكتشف تركيبة مسكّن سمّاه الأسبرين. هذا ما نحتاج إليه يا مدموزيل هانز وليس كتاب "غاية الإتقان في تدبير بدن الإنسان" لرئيس أطبّاء الدولة العثمانية ابن سلوم صالح أفندي الذي ألّفه في القرن السابع عشر.

نظرت آينور في عينيه حتى هدأت أنفاسها:

– حسناً. اذهب إلى ألمانيا لتتعلم من رونتغن بدل السفر إلى بيروت.

ضحك الطبيب جرجس قائلاً:

– يبدو أنَّ قنصلكم يعرف عنّي الكثير.

ردّت وهي متماسكة:

– نائب القنصل الإنكليزي هو الذي أخبرني.

– حسناً مدموزيل. رأيي لن يقدّم أو يؤخّر، وألمانيا حرّة بمستشفياتها، وأرجو ألّا أكون تركت في داخلك انطباعاً سيّئاً. المسألة فقط هي أنّني مع الطبّ الحديث، وأنتم إذا ما بنيتم مستشفى الغرباء هنا فستأتون بطبيب ألماني ليديره، وحين يموت فيلهلم الثاني، أو تسقط أمبراطوريته، فسوف نضطرّ نحن للعودة إلى كتاب "غاية الإتقان في تدبير بدن الإنسان".

قالت وأنفاسها تتسارع:

– أنت من سيدير مستشفى الغرباء يا دكتور غزالة، وسأجلب لك أشعّة رونتغن، والأسبرين أيضاً.

واجهها بابتسامة ساخرة، ثم سألها:

– أتظنّين أنّ الإنكليز والفرنسيّين سيسمحون بهذا؟

– لا تشغل بالك. عليك فقط تغيير الحياة بالطبّ الحديث.

تغيّرت نبرة صوتها وهي تقول:

– دكتور غزالة، لديّ رغبة في ممارسة التوليد عند انتقالي إلى بيتي في حيّ النصارى، ومن المؤكد أنّني سأحتاج إلى استشارتك ومساعدتك.

تريَّث قبل أن يسألها:

– هل أنت مسلمة أم كاثوليكية أم بروتستانتية؟

ابتسمت وهي تردّ:

– أنا أحبّ الله.

قال وهو ينقر بإصبعه على مكتبه:

– مهنة التوليد هنا لا تعتمد على حبّ الله، بل على نوع الدين. النساء يذهبن إلى قابلات من دينهنّ. مستشفى ليجون سيساعدك إن كنت كاثوليكية، أمّا إن كنت بروتستانتية كأغلب الألمان، فعليك الذهاب إلى مستوصف الكنيسة الإنجيلية. أمّا إن كنت مسلمة فعليك حفظ القرآن. لا أريد أن أحبطك مدموزيل هانز. لكن في حالة إيمانك بالله فالفرصة ربّما تكون، بقليل من الذكاء، سانحة لممارسة التوليد، لأنَّ الثلاثة يستخدمون الآيات التي تذكر العذراء مريم.

سألته وهي مبتسمة:

– وأنت يا دكتور غزالة، أتؤمن بالله؟

تلفّت وكأنّه يتأكد من أن لا راهبات في مكتبه، ثمّ ردَّ بعدما أخذ نفساً عميقاً:

– ليس بقدر مبالغات راهبات التقدمة. عقولنا تتبع العلم وتجعلنا أطبّاء، أمّا الله فهو الذي يدفعنا إلى الرحمة كي نخفّف آلام الناس.

قالت وهي تعتدل:

– أريدك أن تستعمل الرحمة في مساعدتي، وأنا سأتكفّل هذا الغباء. إن كان الله هو الله، ومريم هي مريم نفسها، والأطفال، في النهاية يولدون بكلّ الديانات، فلماذا هذا التعقيد؟

سألها وقد استعاد التفكير بأشعّة رونتغن، والأسبرين:

– هذه الثقة العالية، هل هي من الله أم من جهة أخرى؟

نهضت آينور بتثاقل. قالت وهي مشغولة بترتيب البوشية:

– لن أخذل أحلامك دكتور غزالة، وفي المقابل عليك ألّا تخذل طيبتي.

نظرت إليه مبتسمة، وعادت لتقول بنبرة عصفورية:

– لقد أبلغتُ السير هنري هانسفورد أنّ طبيباً ألمانيّاً سيأتي إلى الموصل بعد ستة أشهر. هذه كذبة حربية يا دكتور غزالة، أرجو أن تهملها تماماً إذا ما وصلتك، ففي مقهى كاندريان نتناطح كالتيوس.

ضحك الطبيب جرجس وقال:

– أرجو ألّا تكون كذبة، فأنا أحبّ الألمان مدموزيل هانز.

سألته وهي تمدّ يدها لمصافحته:

– لماذا تريد السفر إلى بيروت؟

ارتبك الطبيب جرجس غزالة من شدّة ليونة أصابعها، لكنّه تمالك نفسه قائلاً:

– لا يمكن العمل مع راهبات التقدمة. هنا يسمّون المهبل نصف تينة، والعضو الذكري الإصبع الكبير جداً.

* نزار عبد الستار، قاصّ وروائيّ عراقيّ وُلد في بغداد عام 1967. نالت روايته الأولى "ليلة الملاك" اهتماماً واسعاً ومُنحت في العام 1999 جائزة أفضل رواية عراقيّة عن اتّحاد أدباء العراق، وجائزة الإبداع، وهي أرفع جائزة رسميّة عراقيّة. مجموعته القصصيّة "رائحة السينما" حقّقت رواجاً كبيراً، وأعيد طبعها أكثر من مرّة. عمل بعد العام 2003 في الصحافة، حيث أدار تحرير جريدة "المدى"، وأسّس جريدة "تاتو" الثقافيّة. "تِرتِر" هي روايته الثانية التي تصدر خلال أيام عن "دار نوفل" بعد روايته "يوليانا" (2016).

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم