الثلاثاء - 30 نيسان 2024

إعلان

بيكيت في مجلد الرسائل الثاني "أتمنّى أن أطمُر نفسي في حفرة الشمندر"

المصدر: "النهار"
رلى راشد
بيكيت في مجلد الرسائل الثاني "أتمنّى أن أطمُر نفسي في حفرة الشمندر"
بيكيت في مجلد الرسائل الثاني "أتمنّى أن أطمُر نفسي في حفرة الشمندر"
A+ A-

ليست إيرلندا المحور الباين في رسائل صاموئيل بيكيت في مجلّدها الثاني، غير أن محاولة الفكاك منها تَتبدّى مستحيلة، لأنها وعلى نحو ما، المحور الوحيد الخابىء بين السطور.


يشير بيكيت في أحد تلك النصوص إلى عجزه عن الإشتغال في حدود مسقطه ويزيد "أظنّ من المستحيل أن يحافظ المرء على عافيته في دبلن. على عافية من أي صنف". يرصُد أرضا إنتسب إليها ولم تفسح له لكي يتحدّث باعتدال ويشخّص مغالاة تسلّلت إلى طبيعة الناس، ليتراءى ومن جراء ذلك مستحيلاً التغاضي عن ما عناه بالنسبة لمنجز بيكيت، أن يحقق المواطن، إبتعاده من الأرض الأم.
أما الأمّ الأخرى، أي والدته البيولوجية، فظلّت إلى حين وفاتها في مطلع خمسينات القرن المنصرم، آخر خيط ربط بيكيت بالمكان والذريعة الباقية التي شَدّته إلى إيرلندا. والحال انه قطع حبل السرّة معها في موازاة تحرّره من الإلتزام بقضاء جزء من موسم الصيف في رفقتها، في الأرض التي جثَمت على حريته الإبتكارية وعلى شيء من اتزانه حتى.
رأى بيكيت في ولادته جُرما فادحا وألقى على والدته مسؤولية الإقتراف الذي إستدرجه إلى متاهة الشك والإضطراب، غير انه جعل من الإقامة الظرفيّة في منزل الوالدة مطرح الإستفهام، على ما نتيقّن من خلال الرسائل.
ها إنه يسأل الناقد الفني جورج دوتويي، في تموز 1948، عن فائدة الفن راهنا في موازاة استعادته تفاصيل لوحة "القديس سيباستيان" لأنتونيلو دا ميسينا، ليضيف "إزاء عمل مماثل، إزاء انتصار مماثل على حقيقة الإضطراب وعلى ضعف القلب والعقل، من الصعب أن لا يعمد المرء إلى شنق نفسه".
لا تتموضع الرسائل في مجموعتها الثانية في حقبة مغادرة بيكيت إيرلندا التي وثّقها مجلد الرسائل الأول، ذلك ان الحركة الثانية تواكب رحلة عبور ليست جغرافية تماما وإنما فكريّة، يصل من طريقها بيكيت إلى مرحلة التساؤل التي تلقي على رسائل عدة سمة الضبابية في المرمى، بينما يحرّكها إلحاح التعبير عن الأفكار.
لا تعتقل "الرسائل، المجلد الثاني: 1941-1956. أعوام غودو" الصادرة بالفرنسية لدى "غاليمار" أخيرا (بعد صدور أول بالإنكليزية لدى "كامبردج يونيفرستي برس") على نسق المجلد الأول في الرغبة في جلد الذات والآخرين، وإنما نعثر في كنفها، على بحث عن السبيل إلى الإستقلال بالتجربة الكتابيّة إلى حيث تكتفي بنفسها.
عند بيكيت، شَكّلت رزمة الأعوام بين 1941 و 1956 مفصلا أساسيا، ذلك انه أنجز خلالها إنعطافه اللغوي مصطفياً الفرنسية، لغةً للكتابة. أراد من خلال لغة موليير على ما يكتب، الذهاب صوب ضياع المعرفة والإنسحاب، صوب عمليّة الطرح عوضا من الجمع. أضف أنه وبدءا من 1945 تغزر القرائن على الخصوبة التأليفية والطاقة الإبتكارية، وعلى فصل جديد في التأليف أفضى إلى "مولوا" و"مالون يموت" و"واللا مسمّى" وإلى "في انتظار غودو" لاحقا.
حين يتوجّه بيكيت إلى الكاتب والمترجم جورج بيلمون بدءا من أوسي سور مارن مدوّنا "أتمنى هذا الشيء فحسب، أن أطمر نفسي في حفرة الشمندر هذه، أن أحكّ التربة وأن أتثاءب قبالة الغيوم"، نخاله يتماهى مع شخوصه، كأنه ليس صاموئيل وإنما مالون.
على رغم شيء من الفكاهة أحيانا، لا يسع بيكيت أن يخلع عنه التلاطمات النفسانيّة والشكوك المُثقلة والوجع الدفين، نراه يراوح مكانه في مربّع الحذر إزاء تمنّيات الإنسان.
في نصوصه التأليفيّة كان لغز الكلمة موضوع بيكيت اليتيم، وفي حين اقتصد في نصوصه التخييلية أفاض في رسائله التي أفصحت بين الفينة والفينة، وبحسب المُرسل إليه، عن الكثير من هِبَته الكتابية.
في أي حال وفي كنف تلك الرسائل ثمة أمر أكيد: عرف الإيرلندي متى يختار الصمت ومتى يختار الكلام.


[email protected]
Twitter: @Roula_Rached77

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم